الحكومة… و الرهانات الجديدة/القديمة

جاءت حكومة الحبيب الصيد بعد انتخابات هزيلة تنظيميا و فارغة من حيث المضمون أثبتت الأيام و توافقات الأحزاب أنها مجرد حالة عبثية و عقار مخدر للشعب مهما اختلفت مشاربه و عملية امتصاص لمطالبه الحارقة و تطلعاته المتجاوزة لعقول السياسيين.جاءت حكومة الحبيب الصيد لتأخذ على عاتقها مسؤولية حكم البلاد بعد أن حمت نفسها بدرع أحزاب متفقة متوافقة ظنا منها أن هذا الواقي قد يحميها من حرارة غليان شعبي متواصل و يسهل لها تبليغ مغالطاتها و تمرير تسويفاتها و مماطلاتها.

رغم كل هذا تبقى الرهانات التي تواجهها الحكومات المتعاقبة حارقة باستمرارها و معقدة بتراكماتها و لا يُلخص العجز السياسي في البلاد إلاّ شعار السير في طريق النمو الذي طُرح منذ سنة 56 و لازال هذا الشعار مطروحا إلى يومنا هذا و يكرره السياسيون و كأنه لا شعار لهم سواه ليخبرونا أن “تونس تسير في طريق النمو”.. و لكن يصفعنا الواقع المرير لنطرح السؤال و بحرقة حول صحة الطريق الذي نسير فيه و المسافات التي قطعناها و الأشواط التي تجاوزناها، و التكرار و الاجترار لم يقتصر فقط على الشعار و إنما يشمل السياسات و الخطط أيضا لنرى الخطابات المتشابهة و الإجراءات المتكررة، فتطفو على السطح مرة أخرى نفس الظواهر و الأوضاع التي ظن الشعب يوما أنه قد قام بثورة من أجل تغييرها أو حتى تحسينها، و من جملة ما نرى اليوم من قضايا مطروحة يأخذ تناولها و الخوض فيها عدة أشكال تبدأ بالامتعاض و الاحتقان و تنتهي بالإضرابات الكارثية لتعلن عن انهيار المنظومة العلمانية و نظرية الدولة الحديثة، و من جملة هذه القضايا نتناول:

1-الأزمات القانونية و السياسية هي أولى القضايا التي ملّ منها الناس و صارت مثالا لاستهتار السياسيين و ضعف المنظومة القانونية القديمة/الجديدة التي ترتكز على دستور جاء ليملأ فراغا فحطم الرقم القياسي في عدد الثغرات و عدد التجاوزات و سرعة خرقه انطلاقا من تكليف رئيس الحكومة الجديد الذي تم تعيينه بعد 3 أشهر من الانتخابات مرورا بالجلسة الأولى للبرلمان و وصولا لرئاسة لجنة المالية و تحديد من هي المعارضة، مما زاد من ازدراء الناس للسياسيين و المؤسسات السيادية للدولة -كالبرلمان- و دستورها، و في النهاية يأتي “التوافق” ليسد هذا الفراغ الدستوري و القانوني و يبقى مصير البلاد رهين توافق الباجي و الغنوشي أي بيد شيخين هرمين تحركهماالكواليس و تؤثر فيهم النسمات الباردة القادمة من الشمال. و هنا تقف الحكومة الجديدة و الحيرة تعلو محياها حول كيفية استصدار قوانين و اتخاذ إجراءات بناء على قاعدة قانونية هشة و في جو يسوده التوافق المرن و المتلون.

2- البنية التحتية، يجبرنا الشتاء و أمطاره على طرحها و بقوة و التساؤل حول عمل الدولة فيها، الأمطار التي نسميها خيرا و رحمة من الله يجعلها عجز الدولة و غياب البنية التحتية نقمة نعاني منها و نخشى حلولها -نسأل الله المغفرة- فدقائق معدودة من الأمطار الغزيرة تعطل المصالح و تتوقف فيها الحياة و تشل الحركة في أكثر من ولاية و يصل الأمر-كما في جندوبة- إلى حد إعلان الطوارئ، بنية تحتية تعجز عن استيعاب الغيث النافع و استغلاله بما ينفع الناس و تحوله إلى كارثة طبيعية تقتضي تسخير قوات الجيش و الحرس و دخول الحماية المدنية لإنقاذ العائلات، و تذهب المياه بعد أيام لتكشف أكثر و بشكل فاضح عن عورة الدولة الحديثة و ما تجرفه الأمطار تاركة وراءها طرقات قد لا تصدق أنها كانت معبدة و رغم ذلك لا تتورع الدولة في إجبار الناس دفع معلوم الجولان على سياراتهم التي تسير على طرقات قيل أن الدولة عبدّتها، و غياب البنية التحتية لا يعني فقط عودة الحياة إلى عصر القرون الوسطى في أوروبا و لكن يعني أيضا غياب المصانع و خسائر فادحة للشركات و نفقات غير متوقعة للدولة للترميم و الترقيع و تجاوز الكثير من الصعوبات و حتى بمقياس وزارة الاستثمار و التعاون الدولي تعني هروب المستثمرين و توفير مواطن الشغل في المناطق التي تكثر فيها البطالة.

3- الثروات الطبيعية: تغادرنا حكومة و تجيئنا حكومة و الحديث عن النفط و الغاز لغز يزداد غموضا و موضوع يزداد عزلة رغم كل المحاولات من السياسيين المخلصين جعله حديث العامة و الخاصة حتى تجيبنا فيه الحكومة عن الأسئلة الحارقة و المحيرة و لكن “لا حياة لمن تنادي”.. و الغموض لا يقف فقط عند النفط و الغاز بل يطال الفسفاط و الملح و غيرهم من المواد التي أنعم الله بها على أرض تونس و أهلها،فحين حاول البعض الحصول على أرقام و مؤشرات حول واقع نشاط شركة “فسفاط قفصة” رفضت هذه الأخيرة تقديم أي معلومة مُعرّضتا نفسها للتتبع القضائي في مخالفة لحق النفاذ إلى المعلومة الذي قيل أن الدستور قد نص عليه، و عموما، أي ضير في تقديم المؤشرات و الأرقام؟؟ لولا خشيتهم افتضاح الفساد المستشري و الذي تتورط فيه الشركات الأجنبية قبل المحلية. و في المقابل يزيدنا صمت أو تستر الحكومة احتقانا و حسرة على ثروات ضائعة و منهوبة و مسروقة يعيش أهلها الخصاصة والحرمان والفقر الذي أصاب نصف الشعب.

4- أزمة القطاع العمومي الذي تشعبت مشاكله و تراكم فساده و الأزمة فيه ليست سوى تمظهر واضح مبين لعجز المنظومة و فساد السياسة المتبعة و عجز الرجال القائمين على القطاع و المشرفين عليه، العجز المثير للريبة و العجز البالغ حد التورط. القطاع العمومي من تعليم و تعليم عالي و صحة و شركات حكومية كشركات النقل و الكهرباء و توزيع المياه يشهد إضرابات متكررة و متتالية عطلت مصالح الناس و شلت الحياة الطبيعية يقابله تصرف أرعن و غير مسؤولمن سلط الإشراف في أكثر من مناسبة، و هذا لايؤكد سوى التوجه الحكومي الحثيث و التدريجي نحو الخصخصة تحت شعار الشراكة بين القطاع العام و الخاص تنفيذا لإملاءات  صندوق النقد الدولي و البنك العالمي و كأنهم يتعمدون إيصال صورة الخور و الانهيار حتى تكون الخصخصة أمرا مرحبا به لدى عامة الناس. و الأزمة أكثر عمقا و تشعبا،فالإضرابات التي تعيشها هذه القطاعات و المطالب بتحسين وضعيتها و النهوض بها نابعة أساسا عن حالة اجتماعية متأزمة جعلت الموظفين يفرون إلى إداراتهم و شركاتهم و يمارسون حقهم في الإضراب و تحسين وضعيتهم متجنبين المطالبة بذلك في الشوارع و الساحات العامة حتى لا يتم تمييع التحركات تحت مسمى الفوضى.

5- وضعية المجتمع التي صارت تدمي القلب و الفؤاد من فرط ما أصابه من ترهل و من بأس صار بيننا و فينا شديدا، فقد كثرت الجرائم و الجرائم المروعة و أجيال ناشئة تتجه نحو الضياع إما تركا لمقاعد الدراسة أو استهلاكا للمخدرات أو بطالة تحطم الطموح و تقتل الأمل في حياة كريمة في هذا البلد، فقد أصبحت جرائم الاغتصاب و التحرش أمرا عاديا و مجرد أرقام نتحدث عنها و نكتبها في الجرائد، و عدد قضايا الطلاق و نسبة العنوسة جعلتنا نحتل مرتبة من المراتب الأولى في هذا العالم، و حديث عن تجارة الأعضاء و تشغيل الأطفال جعل هذا المجتمع حالة من الخراب و الفراغ ينتظر فرجا من الله دون أي طمع في أن تلتفت الحكومة لمثل هذه الأمور و تتخذ بحقها الإجراءات المستعجلة لمعالجتها أو على الأقل أن تدرس هذه الظواهر دراسة معمقة كما تدرس نجاح و فشل الموسم السياحي.

خرج الحبيب الصيد كثيرا إلى الشوارع و أمر ولاّته بالخروج من مكاتبهم و الاحتكاك أكثر بعامة الناس و الاستماع مباشرة لهمومهم و مشاكلهم و رغم جمال هذا الأسلوب إلاّ أن الشكل بلا مضمون لا يغير من الحال شيئا فما فائدة جولة في القصرين و جندوبة يتبعها لقاء مع مدير مكتب الشرق الأوسط واسيا الوسطى بصندوق النقد الدوليو تطبيق إملاءاته التي لا تقيم وزنا لا لجندوبة و لا للقصرين.. فالإرادة الحقيقية للتغيير لا يصنعها الجلوس في المكاتب المهيبة أو الجولان في شوارع المدينة و لكن تصنعها عقيدة ينبثق عنها نظام و وعي بضرورة الإنعتاق من كل أشكال التبعية. مشاكلنا في تونس نعاني منها منذ عقود و صار الشعب خبيرا بها يدرك تفاصيلها و مكمن الداء فيها و لكن الحلول الجذرية العملية التي تصنع الفارق بين سياسي و عامي و بين رجل الدولة و شخص عادي غائبة على الأقل عند أهل السلطة و أصحاب القرار، كيف لا؟ و هم يتعامون عن كل الحلول الإسلامية المفصلة خوفا من الغرب و حفاظا على المنصب أو حقدا على الإسلام و إنكارا لشريعته.

يتواصل تخبطنا كأمة في دياجير هذا الظلم و الفساد المستشري و يتواصل جرينا وراء إصلاحات و ترقيعات صرنا نعاني من انعكاساتها السلبية و نتائجها الجانبية التي تسببت بها، و آن الأوان اليوم لتعلو الأصوات صرخا و تزحف الجموع سيلا و تشد على يد الظالم ضربا  للوصول للصلاح و الإصلاح بالإسلام عقيدة و نظاما.

فراس العيني

CATEGORIES
TAGS
Share This