السلطان عبد الحميد: ” وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر “

حدث أبو ذر التونسي قال:

 مرت بنا هذه الأيام الذكرى الحادية والتسعون لسقوط الخلافة العثمانية في الثالث من مارس 1924, وهي ليست مناسبة للإحياء والتأبين بقدر ما هي محطة لشحذ العزائم واستنهاض الهمم واستجاشة الحفائظ نقف عندها نقتبس من معينها الدفاق من العبر والعظاة ما نستعين به على حاضرنا المثبط للعزائم… ولئن خبا وهج الخلافة في أذهان سواد الناس التي يسيطر عليها الواقع وانحصر ذكرها بينهم أو كاد في سياق التاريخ الأركيولوجي المتحفي لعدم وعي الأجيال الحالية عليها ومعاصرتهم لها وتفيئهم ظلال عدلها, إلا أن زاوية نيرة من أخريات حياتها ظلت محفورة في الذاكرة الشعبية عصية على النسيان معصومة من التشويه الإعلامي والتسميم الفكري تسلط الضوء على شخصية فذة في ارتباطها العضوي بحدث جلل : السلطان عبد الحميد خان آخر سلاطين آل عثمان العظام وخط الدفاع الأخير الذي حال دون تحقق مطامع الاستعمار والصهيونية في القدس أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم…فالقضية الفلسطينية التي يتاجر بها ” أصحابها ” اليوم وتزايد عليها الأنظمة العربية الكسيحة وترزح تحت وطئ خيانات تنوء بحملها الجبال , تجد نفسها مجددا ـ شئنا أم أبينا ـ في المربع العثماني بين يدي السلطان عبد الحميد الذي جعل من القدس قضيته الشخصية ودفع منصبه على عرش السلطنة العثمانية برمته ثمنا لموقفه المبدئي منها , وصدق الشاعر حيث قال :

سيذكرني قومي إذا جد جدهم….. وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر 

 مواقف مشرفة جديرة بسلطان المسلمين

على أن هذا الموقف المشرف لم يسلم ماضيا وحاضرا من الماكنة الإعلامية الصهيونية الاستعمارية التي تناولته بالطعن والتشكيك والتزييف تضليلا للأمة وتشويها لصورة الخلافة ووأدا لحلم عودتها الذي مافتئ يداعب مخيلة الأمة المتعطشة للإسلام…وإن ماقيل عن الاستبداد العثماني واستغلال الأتراك للعرب ومتاجرتهم بقضاياهم المصيرية ـ وإن كان يستند أحيانا إلى حقائق ـ فمن المعلوم تاريخيا أنه منذ مطلع القرن 19م لم تعد السياسة التركية تعبر عن الموقف العثماني الرسمي الذي أضحى رهينة بين يدي الماسون والطورانيين وجماعة تركيا الفتاة والاتحاد والترقي , هؤلاء هم من خان الأمة وانتهج سياسة التتريك وورط الدولة في حروب مدمرة وسلم الولايات العثمانية للاستعمار وباع فلسطين للصهاينة ثم سلخ تركيا عن الإسلام وتركها مسخا يركض لاهثا خلف سراب الانضمام الى النادي الأوروبي دون جدوى…أما موقف السلطنة العثمانية الرسمي من القضية الفلسطينية فقد عبر عنه السلطان عبد الحميد بحركة مشحونة بالقيم النبيلة والمعاني السامية الجديرة فعلا بالإسلام وبسلطان المسلمين : فقد اعتلى السلطان عبد الحميد عرش السلطنة العثمانية في أحلك فترة من حياتها وصفت أثناءها بالرجل المريض الذي يحتضر , فقد تكالبت عليها القوى الاستعمارية واقتطعت معظم الولايات التابعة لها وأثارت ضدها النعرات العرقية في البلقان وجزيرة العرب وأججت ضدها حروبا طاحنة أفقدتها أسطولها البحري ومساحات شاسعة من أراضيها وأغرقتها في الديون ( 33 مليون ليرة ) وأضعفت موقفها السياسي داخليا وخارجيا… وقد حاولت الصهيونية استغلال تلك الظروف لمقايضة فلسطين بأموال اليهود القذرة وتعددت محاولاتها لإغراء السلطان العثماني عن طريق رئيس الوزراء البريطاني بالمرستون والسفيرين الأمريكي والبريطاني لانتزاع موافقته على تسهيل هجرة اليهود الى فلسطين , لكن السلطان عبد الحميد بحكمته ورجاحة عقله وبعد نظره تفطن الى الأهداف الحقيقية لليهود والاستعمارفي الاستيلاء على المنطقة وتهويد مقدساتها وزرع جسم غريب في قلب العالم الإسلامي يحول دون التواصل بين جناحيه , فأبدى رفضه القاطع لتلك الخطوة وأصدر سنة 1882 مرسوما بتحريم الهجرة الى فلسطين أردفه بإرادتين سنيتين الأولى في 28 جوان 1890 مفادها ” رفض قبول اليهود في الممالك الشاهانية ” والثانية في 7 جويلية من نفس السنة مفادها ” على مجلس الوزراء دراسة تفرعات المسألة واتخاذ قرار جدي في شأنها ” , ففرض على الحجيج اليهود ترك جوازات سفرهم لدى الجمارك الى حين العودة وقامت الحكومة بتوزيع منشور نبهت فيه أهالي فلسطين الى وجوب الاحتراز من بيع أراضيهم للغرباء….

المحاولات الجدية للاستيلاء على فلسطين

أما المحاولات الصهيونية الجدية فقد بدأت مع تيودور هرتزل حيث جس نبض السلطان أولا سنة 1896 عن طريق السفير النمساوي نيولنسكي عارضا عليه مبلغ 20 مليون ليرة مقابل بيع أواستئجار قطعة أرض قرب القدس, فكان رد السلطان : ” اني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من فلسطين فهي ليست ملك يميني بل ملك الأمة الإسلامية التي جاهدت في سبيلها وروتها بدمائها, فليحتفظ اليهود بملايينهم واذا مزقت دولة الخلافة يوما فقد يستطيعون الحصول على فلسطين بلا ثمن , أما وأنا حي فان عمل المبضع في جسدي أهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من الدولة الإسلامية “…ورغم هذا الرد المفحم والقطعي الا أن هرتزل لم ييأس وأعاد الكرة سنتي 1901 و 1902 حيث قابل السلطان شخصيا مستغلا ظروف الضعف والاستدانة مضاعفا الإغراء المالي وأبدى استعداد اليهود للوفاء بجميع الديون المستحقة على الدولة العثمانية واعادة بناء أسطولها البحري وانعاش خزينتها بقرض قيمته 35 مليون ليرة دون فوائد , فقط مقابل اباحة دخول اليهود الى فلسطين دون قيد والسماح لهم بانشاء مستعمرة ينزلون فيها قرب القدس….وهو عرض مغر فعلا وكفيل بتقوية الدولة وبعث الروح فيها مجددا, ولكن سلطان المسلمين بعينه الثاقبة المستنيرة التي تقرأ خلف السطور استشرف مرامي اليهود والإمبريالية واستحضر وقفته بين يدي الله فثبت على رفضه القاطع وكان رده مثلجا للصدور : ” قل لهؤلاء اليهود الوقحين ان الدولة العلية لايمكن أن تختبئ وراء حصون بنيت بأموال أعداء المسلمين وان ديون الدولة ليست عارا عليها فغيرها من الدول العظمى مدين مثل فرنسا , وان بيت المقدس افتتحه المسلمون أول مرة في خلافة سيدنا عمر وأنا لست مستعدا أن أتحمل في التاريخ وصمة بيعه لليهود وخيانة الأمانة التي كلفني المسلمون بتحملها “….الى هذا الحد تأكد اليهود من أن السلطان عبد الحميد عقبة كأداء أمام تحقيق المطامح الصهيونية في الاستيلاء على فلسطين وانخرطوا في حملة مسعورة لإزاحته عن منصبه بأية وسيلة , فنظم الماسون محاولتين لاغتياله عن طريق الأرمن لكنهما فشلتا وشنوا بالتوازي حملة اعلامية لتشويه صورته تكفلت بها صحف الإرساليات التبشيرية في مصر والشام على غرار ( المقطم, الأهرام ,الهلال, المقتطف ,سركين…) التي أخذت تصفه بالسلطان الأحمر والدموي والاستبدادي وتروج عن حياته الشخصية الأكاذيب والافتراءات…ولما وصل جماعة الاتحاد والترقي الماسونية التي تقنع بها يهود الدونمة الى رئاسة الحكومة التركية تولت مهمة الضغط على السلطان فجددوا اغراءه بالمال ثم دبروا مؤامرة لعزله فاستصدروا “فتوى شرعية ” لخلعه وكان لهم ما أرادوا سنة 1909 …ومن أعجب المفارقات أن الماسونيين الأربعة الذين خلعوا السلطان وقدموا له قرار العزل ليس بينهم مسلم أو عربي أو تركي واحد وهم على التوالي : اليهودي قراصو والأرمني آرام والأرناؤوطي طوبطاي والكرجي حكمت, وحتى ” العالم الباطني ” موسى كاظم أفندي الذي أفتى بخلع السلطان فهو بهائي كافر لا علاقة له بالإسلام ولا بأي دين سماوي أوصله الماسون الى منصب الإفتاء لاستغلاله عند الحاجة… وقد برر السلطان خضوعه لقرار العزل في رسالة بعث بها إلى شيخه محمود أبو الشامات شيخ الطريقة الشاذلية بدمشق جاء فيها : ” إنني لم أتخل عن الخلافة الإسلامية لكن بسبب مضايقة رؤساء جمعية الإتحاد والترقي وتهديدهم اضطررت وأجبرت على ذلك…إنهم قد أصروا وأصروا علي بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة فلم أقبل بصورة قطعية , فوعدوا بتقديم 150 مليون ليرة ذهبا فأجبتهم : انكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهبا فلن أقبل ذلك بوجه قطعي ,لقد خدمت الملة الإسلامية والأمة المحمدية مايزيد عن ثلاثين سنة فلم أسود صحائف آبائي وأجدادي السلاطين العثمانيين ” …وبعد نجاح المؤامرة اليهودية الماسونية الاستعمارية بالإطاحة بالسلطان عبد الحميد أصدر الاتحاديون تشريعا يقضي ببيع جميع الأراضي السلطانية في الدولة بالمزاد العلني , فبلغ عدد المستوطنات اليهودية في فلسطين فيما بين 1910 و 1914 ما يزيد عن أربعين مستوطنة…أما السلطان عبد الحميد فقد دفع غاليا موقفه المبدئي ذاك : فقد نفي الى سالونيك وعزل عن عائلته وفرضت عليه الإقامة الجبرية في شبه سجن حتى أن أحد المكلفين بحراسته أطلق عليه عيارا ناريا لما أطل برأسه من الشرفة…ويذكر التاريخ أنه لم يكن يقابل عائلته الا مرتين في السنة : يومي عيد الأضحى وعيد الفطرالى أن لقي ربه مرتاح الضمير بريء الذمة من التفريط في مقدسات المسلمين وأمانة سيدنا عمر ابن الخطاب…

صرخة في قعر واد

لقد كان السلطان عبد الحميد على وعي تام بما يحاك آنذاك ضد الإسلام والدولة الإسلامية ولم يدخر جهدا لمقاومة المخططات الاستعمارية ضد الدولة العثمانية عامة وفلسطين خاصة ,ولكن اجراءاته كانت صرخة في قعر واد: فقد نخر الفساد والرشوة الإدارة العثمانية وتسلل اليهود والماسون الى حاشية السلطان وبطانته نفسها واضطلعوا بحقائب وزارية لاسيما مع حكومة الاتحاد والترقي التي ضمت أربعة وزراء يهود : ( جاويد بيك وزير المالية,بساريا أفندي وزير الأشغال العامة, نسيم مازلياح وزير التجارة والزراعة وهو في نفس الوقت مفوض الجمعية الصهيونية,وأوسقان أفندي وزير البريد )…لقد ضحى السلطان عبد الحميد بمنصب السلطنة والخلافة وبعرش الدولة العثمانية الممتدة على ثلاث قارات وبسمعته وراحته وعائلته وحريته من أجل الحفاظ على مقدسات المسلمين ,بينما ضحى ويضحي اليوم الرؤساء العرب بشعوبهم وبقضايا المسلمين المصيرية وبأمانة المسلمين في فلسطين من أجل كراس هزيلة لدويلات ميكروسكوبية كسيحة ,وأحيانا من أجل وهم دولة وألقاب لا رصيد لها على أرض الواقع…..هذه شهادة للتاريخ في حق السلطان عبد الحميد عسى دماؤه التي ثارت في عروقه تثير فينا دماء المعتصم….

الأستاذ بسام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This