السَّمْع وَالطَّاعَة

السَّمْع وَالطَّاعَة

عَنْ أَبي نَجِيحٍ العِرْباضِ بنِ سَاريةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ:)وَعَظَنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْها القُلوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْها العُيُونُ , فَقُلْنا: يا رسولَ اللهِ، كَأنَّها مَوْعِظَةُ مُودِّعٍ فَأَوْصِنا. قالَ }:  أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا, فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ , تَمَسَّكُوا بِهَا , وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ , وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ{) رواهُ أبو داوُدَ والتِّرمِذِيُّ ، وقالَ: حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.

الكلام على هذا الحديث من وجوه:

الوجه الأول (تخريج الحديث)

هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من رواية ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن سارية رضي الله عنه وقال الترمذي حسن صحيح وقال الحافظ أبو نعيم هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين.

الوجه الثاني:

في قول العِرباض رضي الله عنه:” وَعَظَنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْها القُلوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْها العُيُونُ”، فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعظ أصحابه -و هم خير منّا-، يعظهم وعظا تجل منه القلوب، فقد كان في خطبه و دروسه يبيّن بيانا حسنا و يصف ما يريد وصفا بليغا و كان يقول صلى الله عليه و سلم:” إنّ من البيان لسحرا”، و من ذلك قول النواس بن سمعان كما في صحيح مسلم:” تكلّم رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الدجال، حتى ظننّا أنّه في طائفة النخل” يعني حتى ظننا أنّ الدجال في النخل القريب، من بلاغة وصف النبي صلى الله عليه و سلم و من قوة حديثه في ذلك.

و هذا الاهتمام بالبيان و الموعظة و بالأسلوب الحسن و القوي، أكثر ما يحتاجه حامل الدعوة الإسلامية في هذا الزمان لتفتح له القلوب فالعقول، لذلك حين وعظ النبي صلى الله عليه و سلم صحابته بهذه الموعظة قالوا:” يا رسولَ اللهِ، كَأنَّها مَوْعِظَةُ مُودِّعٍ فَأَوْصِنا”، و قبل الخوض في الوصايا وجب التنبيه إلى أنّ النبي صلى الله عليه و سلم كان يتخوّل أصحابه بالموعظة بمعنى أنّه لا يداوم على الموعظة و إنّما بين الفترة و الأخرى، و لذلك كان ابن مسعود يعظ أصحابه كل خميس فقال أبو وائل:” يا ابن مسعود ألا جعلت ذلك كل يوم” لأنّهم أحبوا كلام ابن مسعود، فقال:” إنّي أتخوّلكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتخوّلنا بها” و هذا الأثر في البخاري.

الوجه الثالث:

قول النبي صلى الله عليه و سلم:” أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ “

هذه الوصية جمعت سعادتي الدنيا و الآخرة، فأمّا تقوى الله ففيها سعادة الآخرة و أيضا بركة في الدنيا، و السمع و الطاعة فيهما انتظام مصالح العباد، فإنّ الناس إذا كانوا في حياتهم على حال من الفوضى و كلّ يركب رأيه فإنّ الأمور لا تنتظم، و لذلك جاءت أحاديث متعددة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في الحث على اجتماع الكلمة و على السمع و الطاعة لمن ولاه الله سبحانه و تعالى أمر المسلمين، و ممّا ينبغي التنبيه عليه أنّ هذه النصوص الواردة في السمع و الطاعة مقيّدة بصفات ينبغي أن تكون في الحاكم، فإذا توفرت تلك الصفات فيه فإنّ هذه النصوص تنطبق عليه، و إن لم تتوفر هذه الصفات فإنّ تنزيل مثل هذه النصوص على واقع لا ينطبق عليه يعدّ ضربا من ضروب تحريف الشريعة، فهي نصوص حق ليس كما يتبرّأ منها البعض و أيضا لا بد أن تكون على واقع يستقيم تنزيل مثل هذه النصوص عليه، و من القيود الواردة في مثل هذه النصوص ما جاء في صحيح مسلم أنّ النبي صلى الله عليه و سلم قال:” اتقوا الله و إن أمّر عليكم عبد حبشي مُجدّع فاسمعوا له و أطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله”، و من  اللبس الذي حصل عند بعض المسلمين اليوم في مسألة طاعة الحكام قد حصل لأنهم أنزلوا حكام اليوم منزلة الخلفاء وطبقوا عليهم أحاديث الطاعة وحرمة الخروج عليهم، مع أن حكام اليوم لا يعتبرون حكاما شرعيين لأنهم يحكمون في دور كفر ويطبقون أنظمة الكفر فينطبق عليهم الحكم بإزالتهم وإقامة الخلافة الإسلامية، و لا يستقيم تنزيل نصوص الطاعة على واقعهم.

الوجه الرابع: مفهوم الطاعة في الفكر السياسي الإسلامي

الطاعة في الفكر السياسي الإسلامي تعني: الانقياد في الظاهر والباطن لتصريف الشؤون ورعايتها من قبل خليفة المسلمين، والالتزام بأوامره وتدابيره في كل ما يتعلق بإقامة الدين وحراسته، وحفظ حوزة الملة الإسلامية، وفي كل ما من شأنه تحقيق مصلحة الإسلام والمسلمين في حدود ما شرعه الله تعالى. وفي تعريف الخلافة  نلمح هذا المعنى. كما يقول الإمام الإيجي الخلافة «هي خلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوزة الملة، بحيث يجب إتباعه على كافة الأمة» فإتباع الخليفة مقيد بشروط وأحوال يجب مراعاتها، لتكون طاعة مشروعة واعية، لأنها ليست طاعة كهنوتية، وليست من باب الخضوع لنفوذ روحي يتمتع به الخليفة، ولا هي استحقاق شرعي ممنوح من قبل الأمة للخليفة بعقد البيعة، يتمكن الخليفة بموجبه من التصرف العام على المسلمين في حدود ما يمكنه من حراسة الدين، وإقامته وسياسة الدنيا به، فطاعة خليفة المسلمين أو ولي أمرهم، حكم شرعي يجب فهمه في إطاره الشرعي بعيداً عن المفاهيم والمصطلحات الغربية، كالاستبداد، والثيوقراطية، والديمقراطية، والخلافة الرسولية، ونحو ذلك. فمفهوم طاعة ولي أمر المسلمين لم يرتبط بذات ولي الأمر وشخصه، ولم تكسبه مهابةً تجعله فوق سائر البشر، ولم تمنحه حصانة تجعله فوق التشريعات والنظم، ولم تمكنه من الاستبداد بالأمر دون المسلمين، ولم يكتسبها لكونه مصدر القوة والسلطان والنفوذ، أو لكونه ملكاً أو جباراً، أو لكونه ظل الله في الأرض. وإنما الطاعة استحقاق شرعي اكتسبها بموجب عقد البيعة، لينوب عن الأمة في حراسة الدين.

الوجه الخامس: في قول النبي صلى الله عليه و سلم:” فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا “

هذا إخبار من النبي صلى الله عليه و سلم عن الاختلافات و الفتن التي ستحصل بين المسلمين، و قد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم، اختلف المسلمون اختلافا كثيرا، و هنا يوصي النبي صلى الله عليه و سلم بالمخرج من هذه الاختلافات فقال :” فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ , تَمَسَّكُوا بِهَا , وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ” و النواجذ هي الأضراس و هذا دليل على شدّة التمسك بسنّة النبي صلى الله عليه و سلم و سنة الخلفاء الراشدين من بعده، و ليس المراد بالسنّة هنا مُقابل الواجب، لأنّ السنّة إذا أطلقت فالمراد بها مجموع طريقة النبي صلى الله عليه و سلم سواء أكانت في الأقوال أم في الأعمال، سواء أكانت في الفرائض أم في المستحبات و السنن.

و في قوله صلى الله عليه و سلم:” الخلفاء الراشدين” نصّ غير واحد من أهل العلم أنّ عمر بن عبد العزيز من الخلفاء الراشدين و هذا يدلّ على أنّ الخلفاء الراشدين ليس المراد بهم الخلفاء الأربعة- أبو بكر و عمر و عثمان و علي رضي الله عنهم – فحسب، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنّه ستكون خلافة على منهاج النبوة بعد ملك عضوض و ملك جبري، فالخليفة الذي يعمل المخلصون من المسلمين في زماننا هذا على إيجاده ينطبق عليه و صف الخليفة الراشد، نسأل الله العلي القدير أن يجعلنا من العاملين الجادين على مبايعته على كتاب الله و سنّة نبيه صلى الله عليه و سلم إنّه ولي ذلك و القادر عليه.

فريد سعد

CATEGORIES
TAGS
Share This