تناقض العلمانية مع الإسلام

عرّف قاموس أكسفورد العلمانية بأنها: “العقيدة التي تذهب إلى أن الأخلاق لا بدّ أن تكون لصالح البشر في هذه الحياة [الدنيا]، واستبعاد كل الاعتبارات الأخرى المستمدة من الإيمان بالإله أو الحياة الأخرى [الآخرة]”.
وعرّف قاموس ويبسترس (websters) العلمانية بأنها: “عقيدة ترفض الدين والاعتبارات الدينية”، وبأنها: “تعطي الحقّ للتحرّر من قوانين الدين وتعاليمه، وللتحرر من تطبيق الحكومة للدين على الناس ضمن دولة محايدة فيما يتعلّق بمسائل الإيمان… ومن ناحية أخرى فإن العلمانية تشير إلى الاعتقاد بأن الأنشطة والمواقف الإنسانية، وبخاصة السياسية منها، لا بدّ أن تبنى على البرهان والواقع وليس على التأثير الديني”.
وعرّف قاموس لاروس (Larousse) اللائكية (العلمانية) بأنها: “نظام يزيح الكنائس عن ممارسة أي سلطة سياسية أو إدارية، ويزيحها بخاصة عن تنظيم التعليم”.
فالعلمانية أو اللائكية هي عقيدة تفصل الدين عن الحياة أي عن السياسة والاقتصاد والمجتمع والتعليم وغير ذلك. وهذه العقيدة مناقضة للإسلام من أوجه أربعة نبيّنها فيما يلي:
1. الإيمان بالخالق:
بالنسبة للعلمانية فإنّ مسألة الإيمان بالخالق المدبّر مسألة شخصية لا تعني الإنسان ككل، إنما تعني الفرد. فمن شاء أن يؤمن فله ذلك، ومن شاء أن يكفر فله ذلك؛ فهي قضية لا تهم المجتمع، ولا تهم الإنسانية، إنما تهم الأفراد بوصفهم الفردي. وهذه الرؤية العلمانية تناقض رؤية الإسلام الذي يعدّ الدعوة إلى التوحيد أي الإيمان بالخالق المدبّر هي أساس كل شيء في هذا الوجود؛ فما أرسل الله عزّ وجلّ من رسول إلاّ ليدعو الناس إلى التوحيد. قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء 25). وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل 36).والدعوة إلى التوحيد ليست قضية فردية بل هي قضية الإنسانية ككل؛ ولذلك نرى القرآن الكريم يوجّه الخطاب إلى الناس جميعا ليؤمنوا بربهم وخالقهم. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}(البقرة). وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني نفسه وماله، إلا بحقه وحسابه على الله”. فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم قضية الإيمان والتوحيد القضية الأساسية التي يقاتل المسلمون الناس من أجلها. ولا يعني هذا إكراه الناس على العقيدة، إنما يعني إزالة الحواجز المادية التي تمنع انتشار الدعوة الإسلامية وتبليغها إلى الناس. وعليه، فإنّ قضية الإيمان بالنسبة للإسلام قضية أساسية يدعى إليها كل الناس لتكون هي أساس النقاش والبحث، وليست مسألة فردية – كما تقول اللائكية/العلمانية – لا تبحث على مستوى الجماعات، ولا تطرح في المجتمع كمسألة فكرية تهم الشأن العام. فعن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه: “فوالله لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من أن يكون لك حمر النعم” (رواه البخاري ومسلم).
2. التكليف
القول بالعلمانية أي بفصل الدين عن الحياة يعني القول بعدم تدخل الدين في أنظمة الحكم والاقتصاد والسياسة وفي العلاقات المجتمعية والاجتماعية. وقد نتج هذا القول عن رؤية عقدية مفادها أنّ الإنسان سيّد نفسه في هذا الوجود، وأنّه ينظّم شؤون حياته وفق ما يراه عقله من منفعة ومفسدة؛ لأنّ الخالق لا علاقة له بحياتنا الدنيا. وهذا يناقض الإسلام؛ لأنّه يقوم على فكرة التكليف. فالله عزّ وجل خلقنا ولم يتركنا لأنفسنا ننظم حياتنا كما نشاء بل كلّفنا وأرسل الرسل لتخرجنا من الظلمات إلى النور. قال الله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)}(القيامة). قال الشيخ الطاهر ابن عاشور (رحمه الله): ” {أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} أي لا يحسب أنه يترك غير مرعي بالتكليف كما تترك الإبل، وذلك يقتضي المجازاة. وعن الشافعي: لم يختلف أهل العلم بالقرآن فيما علمت أن السدى الذي لا يؤمر ولا ينهى.. وقد تبين من هذا أن قوله { أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} كناية عن الجزاء لأن التكليف في الحياة الدنيا مقصود منه الجزاء في الآخرة”. وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)}(المؤمنون). قال القرطبي: “قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} أي مهملين كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب عليها؛ مثل قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} يريد كالبهائم مهملا لغير فائدة”. وعليه، فاللائكي يؤمن بهذه الحياة الدنيا، ولا يربطها بما قبلها وبما بعدها، إنما يحصر وجوده وكينونته ضمن هذا العالم السفلي، ولا يعنيه أمر الخالق ونهيه؛ لأنه لا يؤمن بالتكليف. وأما المسلم الحقّ، فيربط الحياة الدنيا بما قبلها وبما بعدها؛ لأنه يعتقد جازما بأنه خلق لعبادة الله وطاعته. قال الله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}(الذاريات). ومن كانت هذه عقيدته أي يؤمن بالحساب والثواب والعقاب، ويؤمن بأنه مخلوق لله رب العالمين ومكلّف بطاعته، فلا يمكن أبدا أن يكون علمانيا يفصل الدين عن الحياة.
3. لمن الحكم؟
إذا فصل اللائكي/العلماني الدين عن الحياة فمعناه أنه ينصّب نفسه مشرّعا حاكما. فهل يقبل الإسلام هذا؟ ولمن الحكم: لله أم للإنسان؟ أجاب الشرع فقال: لا حكم إلا لله، وأما حكم الإنسان وتشريعه فهو جاهلية وطاغوت.
قال الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)}(النساء). وقال سبحانه: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)}(النساء). وقال سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}(المائدة). قال الشيخ الطاهر ابن عاشور: “… وتحت هذا حالة أخرى، وهي التزام أن لا يحكم بما أنزل الله في نفسه كفعل المسلم الذي تقام في أرضه الأحكام الشرعية فيدخل تحت محاكم غير شرعية باختياره فإن ذلك الالتزام أشد من المخالفة في الجزئيات، ولا سيما إذا لم يكن فعله لجلب منفعة دنيوية. وأعظم منه إلزام الناس بالحكم بغير ما أنزل الله من ولاة الأمور، وهو مراتب متفاوتة، وبعضها قد يلزمه لازم الردة إن دل على استخفاف أو تخطئة لحكم الله”. وأخرج الترمذي في السنن عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب. فقال: “يا عدي اطرح عنك هذا الوثن”، وسمعته يقرأ في سورة براءة: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله}، قال: “أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه “. وفي رواية الطبراني في الكبير: “… فقلت: إنا لسنا نعبدهم، فقال: “أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه ؟ قلت: بلى، قال: ” فتلك عبادتهم”.
4. دين ودولة
يزعم اللائكي أنّ الإسلام مجرد عبادة ولا علاقة له بشؤون الحياة والدولة. وهذا يناقض الإسلام الذي أتى بتشريعات كاملة متعلقة بتنظيم شؤون الناس والمجتمع والدولة؛ فالإسلام دين ودولة بل لا يتأتى وجود الإسلام في هذه الحياة بدون حكم وسلطة. عن أبي أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لتُنتَقضُنّ عُرى الإسلام عُروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة” (رواه الطبراني في الكبير وأحمد). وفي هذا الحديث دلالة على أن الدين مرتبط بالدولة والحكم. وفيه دلالة أيضا على أن غياب الحكم بالإسلام وفصل الحكم عن الدين ينتج غياب الدين ككل؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم شبّه أحكام الإسلام من ناحية عملية بالعروة، وهي في الأصل ما يعلّق به من طرف الدلو والكوز ونحوهما، فاستعير لما يتمسك به من أمر الدين، ويتعلق به من شعب الإسلام وأحكامه من ناحية تطبيقية عملية، وكأنّ الإسلام من ناحية التطبيق والتنفيذ في المجتمع، مرهون بالحكم، فإذا انتقضت عروة الحكم انتقضت بقية العرى شيئا بعد شيء حتى يكون آخرها ترك الصلاة. وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم ارتباط الدين بالسياسة والدولة بألفاظ صريحة فقال: “كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون. قالوا: فما تأمرنا ؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم” (البخاري ومسلم عن أبي هريرة). قال الشيخ محمد البشير النيفر (رحمه الله): “والأمر في شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم أوضح وأظهر فهو صلى الله عليه وسلم خليفة ورسول وقد خاطبه الله بقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}. وكانت حكومات الإسلام على عهد الخلفاء والملوك تجري على هذا الصراط المستقيم، وقد قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته التي ألقاها إذ توفى الله إليه رسوله صلى الله عليه وسلم: “إن محمدا قد مات ولا بد لهذا الدين من يقوم به”. ولم يفهم أحد من الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين وأئمة مذاهبهم سلفا وخلفا من معنى الإمامة والإمارة إلا حكومة تتصل بالدين وتقيم أحكامه العادلة. وقد قيل في تعريف الإمامة: ولاية عامة في الدين والدنيا توجب طاعة موصوفها في غير منهي إلخ، وقيل أيضا: رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي صلى الله عليه وسلم”. وقال الشيخ العلامة محمد العزيز جعيط (رحمه الله): “ولا يخفى أن معنى القيادة بكتاب الله الخضوع لأوامره ونواهيه الواردة في الكتاب أو السنة وإجراء الشؤون على إذلالها، فإذا حادت الحكومة عن الوصايا القيمة التي جاء بها الدين لم تطع فيما خالفت فيه الدين. ومما يزيد ما تقدم إيضاحا أن المسلم إذا لم يبح له الخروج عن سلطان الدين ويعد امتناعه من قبول سلطة الدين عليه بالأمر والنهي موجبا لخروجه عن حظيرة الإسلام ولفصله عن أمس الناس به صلة وأقواهم به رابطة من المسلمين فلا يرث مسلما ولا يرثه مسلم ولا يدفن في مقابر المسلمين وتبين منه زوجته، فكيف يقبل أن تكون الحكومة غير خاضعة لسلطان الدين وهل الحكومة إلا مجموع الأفراد. وكيف يمكن أن يعتني الدين بالعباد منفردين فيأمرهم وينهاهم ويحتم عليهم الخضوع لأوامره ونواهيه ويهمل أمورهم في شكل الدولة مع أنها أهم؟ وما الفرق بين حكومة لا تتقيد بأوامر الدين ونواهيه وبين حكومة أجنبية لا تدين بالدين الإسلامي؟”.
وخاتمة القول: قال الشيخ محمد العزيز جعيّط رحمه الله: ” فتنبهوا رحمكم الله إلى أنّ اللائكية تخالف الدين في الإيراد والإصدار. ولا تغتروا بمن يلبّس عليكم أمر دينكم ويدّعي أنها تخالف الدين إذا عرضت على محك الاختبار. فإن ذلكم من زور القول وكذب الأخبار”.

ياسين بن علي

CATEGORIES
TAGS
Share This