ذكرى سقوط غرناطة: من الفردوس المفقود إلى السّعير الموعود

ذكرى سقوط غرناطة: من الفردوس المفقود إلى السّعير الموعود

أبو ذرّ التونسيّ (بسّام فرحات)

مرّت بنا مطلع هذا الشّهر ذكرى أليمة مافتئت منذ أكثر من خمسة قرون تجثم على وجدان الأمّة الإسلامية فذيقها النّدامة والحسرات، إنّها ذكرى سقوط غرناطة آخر حصون الإسلام بالأندلس في الثّاني من جانفي 1492م، وتتعمّق المأساة على وقع احتفالات الإسبان بنفس المناسبة بوصفها (استردادا وأمجادا وثأرا ونصرا للمسيحيّة على الإسلام) بمنطق يقطر عنصريّة وكبرا وتشفّيا واحتقارا..هذه المحنة والنّكبة التي تذيب القلب كمدا هي في الواقع معين لا ينضب من العبر والدّروس والمواعظ القيّمة التي لو انزجر المسلمون بها آنذاك لما فقدوا فردوسهم الأرضي ولما اختلّت موازين القوى بينهم وبين عدوّهم هذا الاختلال المشطّ الذي أفضى إلى سقوط دولة الخلافة واندراس شرائع الإسلام وتمزّق الأمّة ووقوعها تحت نير الاستعمار السّافر ثمّ المقنّع بما يحيل عليه ذلك من نهب وإذلال ومسخ وقهر.. وإنّنا إذ نقف اليوم عند هذا الحدث الجلل فليس ذلك من باب البكاء العقيم على الأطلال، بل وقفة عظة واعتبار وتدبّر وتفكّر رفعا للهمم وشحذا للعزائم واقتباسا لما يمكن أن نستعين به على تجاوز واقعنا المتردّي مصداقا لقوله تعالى” لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب”..

حركة التّاريخ

فمكمن المعضلة أنّ تلك النّكبة تتواصل هذه الأيّام وتتوسّع بأشكال أفظع وأفدح وتُستنسخ بالجملة في كلّ شبر من أرض الإسلام وبنسق مرتفع بما ينذر لا بفقدان المسلمين لقبلتهم الأولى وجزء من أرضهم فحسب ـ فهذا وأضعاف أضعافه من تحصيل الحاصل ـ بل بفقدان ذاتيّتهم وكينونتهم وهويّتهم كأمّة متفرّدة قائمة على عقيدة متميّزة قبل إقصائهم من واقع الحياة إلى هامش صفحة من كتب التاريخ الصّفراء..فالمسألة ليست مرتبطة بأزمنة وأمكنة وأشخاص معيّنين، بل بعقليّة ومبدأ وسلوك وبرنامج سياسي وحركة تاريخ، ومادامت هذه واحدة فلا فرق أن تسمّى حربا صليبية وحركة استرداد ويقودها أوربانوس الثاني والأذفونش السادس، أو أن تسمّى مكافحة الإرهاب والقضاء على أسلحة الدمار الشامل وينفّذها ترامب وبوتين وأردوغان وبشّار..المهمّ أن تتهيّأ نفس الظرفية الدولية والأنماط السلوكية والفكرية والخيارات السياسية والاقتصادية والثقافيّة حتى تتكرّر الأحداث التاريخية وإن بأشكال وأساليب وأياد أخرى، وما أشبه الأمس باليوم..فإذا بالتاريخ يعيد نفسه في سيرورة تصفويّة تصاعديّة من البكاء على الفردوس المفقود إلى البكاء من لفح سعير الرّأسمالية الموعود وقد ألقى بنا الاستعمار في فوّهة بركانها المليء بالحمم..

هرم الدّولة الخلدونيّة

لقد خضعت دولة الإسلام بالأندلس إلى الهرمية الخلدونية أو المثلث الخلدوني الذي حصر فيه حياة الدّول (التكوين والتأسيس ـ الازدهار والقوّة ـ التفكّك والانحلال)..ولكن لكونها قامت على العقيدة الإسلامية العظيمة الولاّدة ولكون الإسلام عموما محوطا بالعناية الإلهية فقد قيّض الله لدولة الإسلام بالأندلس من يأخذ بيدها ويضخّ في عروقها دماء إسلامية حارّة وينتشلها من السّقوط ويمكّنها من دورة حياة جديدة كلّما لاحت عليها بوادر الانحلال، وبذلك فقد خضعت أربع مرّات للهرمية الخلدونية قبل أن تتفكّك وتزول..لقد فتحت الأندلس في 92هـ/711م على يدي موسى بن نصير ومولاه طارق ابن زياد وعمّها نور الإسلام بالكامل، وقد شهدت ذروة قوّتها ومجدها مع ولاّة بني أميّة حيث امتدّ نفوذها إلى قلب فرنسا (بلاط الشهداء) واستمرّت في ازدهارها إلى أواسط القرن الثامن للميلاد..بعد سقوط الدّولة الأموية على يدي العبّاسيين بالمشرق تعكّرت الحياة السياسية بالأندلس وحصل فراغ في السلطة وأضحت البلاد فريسة للثورات والفتن والعصبيّات (عرب/بربر ـ يمنية/قيسية) فساد الاضطراب والفوضى وعمّ الخراب والدّمار وتنمّر النّصارى وتهدّد الوجود الإسلامي في دورة حياته الأولى بجديّة..

صقر قريش

دورة الحياة الثانية التي أتيحت للأندلس كانت مع صقر قريش عبد الرّحمن الدّاخل الذي جدّد ملك بني أميّة وأسّس سنة 138هـ/755م دولة قويّة منيعة استمرّت في ازدهارها إلى أوائل القرن 5هـ/11م: فبعد مهزلة حجابة بني عامر انفرط عقد الدّولة الأموية ودخلت الأندلس عصر ملوك الطّوائف وتفتّتت إلى أكثر من 20 مملكة تشبّث حكّامها بالألقاب الجوفاء وأهملوا الغزو وآثروا الرّاحة وتخاذلوا عن نصرة الإسلام وكانوا فريسة للتحاسد والتباغض والتعادي والتنازع والدّسائس فسرى فيهم الضعف والوهن واختلّ أمرهم وتفرّقت على أيديهم كلمة المسلمين..وكان من الطّبيعي أن يهتبل الإسبان الفرصة للإجهاز على المسلمين، فتحالفت ممالكهم الثلاثة (أرغونة ـ قشتالة ـ البرتغال) تحت راية الأذفونش السادس الذي انطلقت على يديه حركة الاسترداد الصّليبية: فاستعادوا طليطلة عاصمة القوط الأولى وحاصروا قرطبة وماردة وبطليوس وأخضعوا ملوك الطّوائف للابتزاز والإتاوات والإذلال..وعوض أن يتّحدوا ويراعوا مصلحة الإسلام فقد تمادى أشباه الملوك هؤلاء في التحاسد والتّدابر والتّقاطع وبلغ بهم الأمر إلى التحالف مع النصارى ضد المسلمين، وكان ذلك أول إيذان بسقوط الأندلس لولا أن تداركها الله برحمته..

نجدة المرابطين

دورة الحياة الثالثة التي أتيحت للأندلس كانت مع يوسف بن تاشفين ودولة المرابطين، فقد استنجد بهم مسلمو الأندلس وبعض ملوكها، وكانت الدّعوة الإسلامية ماتزال حيّة حارّة ملتهبة في صنهاجة ولمتونة البربريّتين، فعبر المرابطون إلى الأندلس وانتصروا على جيوش الأذفونش في موقعة الزّلاقة (479هـ/1086م) ومعركة إقليش (501هـ/1108م)، فاستتبّ لهم الأمر وسرعان ما ألحقت الأندلس بالدولة المرابطيّة..بموت يوسف بن تاشفين فقدت الدّولة عمادها فاختلّ أمر المرابطين شيئا فشيئا وخبت حرارة الدّعوة الأولى وسرى الضعف والوهن وظهرت فيهم المناكر واستولت النساء على الحكم وقعدوا عن الغزو والفتوح..في الأثناء حمي وطيس الحروب الصّليبية بالمشرق وغزا النورمان سواحل إفريقية من برقة إلى الجزائر ممّا أثار حماسة النصارى فانتعشت حركة الإسترداد مجدّدا لاسيما بعد اتّحاد مملكتي أرغونة وقشتالة، فافتكّوا سرقسطة ثاني معقل إسلامي بعد طليطلة وهدّدوا غرناطة ووصلت جيوشهم إلى أقصى الجنوب..ومع عجز المرابطين عن صدّ خطر النّورمان بإفريقية وخطر النصارى بالأندلس ظهرت الدّعوة الموحّدية في قبيلة مصمودة البربرية جنوب المغرب الأقصى كحركة تصحيحية للأخذ بيد الإسلام، وسرعان ما قضت على المرابطين وأطردت النورمان ووحّدت إفريقية من برقة إلى المحيط الأطلسي..

ضعف الموحّدين

وقبل ذلك كان الأندلسيّون قد شقّوا عصا الطّاعة ضدّ المرابطين وأغراهم الإسبان بالثورة والاستقلال للاستفراد بهم، وعادت الأندلس إلى مربّع ملوك الطّوائف: تفرّق وتدابر وضعف وتخاذل وخضوع للأعداء وتحالف مع النصارى ضد المسلمين بما ينذر بالزّوال لولا العناية الإلهية..دورة الحياة الرّابعة والأخيرة التي أتيحت للأندلس كانت مع الدولة الموحّدية: فقد وفد أعيان الجزيرة على السّلطان عبد المؤمن بن علي واستنصروه لإنقاذ الإسلام والمسلمين، فعبر بجيوشه سنة (591هـ/1195م) وانتصر على الإسبان في معركة الأرك واسترجع جميع الأراضي التي استولوا عليها وأصبحت الأندلس قوّة منيعة تحت السّيادة الموحّدية..إلاّ أنه وبموت محمد الناصر أعظم سلاطين الموحّدين ظهرت بوادر الضعف ونجمت الفتن وعمّ الفساد والارتشاء والاستبداد واندلعت نيران الثورات في السلطنة الموحّدية لاسيما في شقّها الأندلسي..في المقابل لم تزد هزيمة الأرك الإسبان إلاّ عزما وتصميما في ظل أخبار الانتصارات الصليبية بالمشرق، فاستنجدوا بالبابا (إينوسيان الثالث) الذي أثار الحماسة المسيحية ودعا لاستئصال المسلمين من إسبانيا فاستجاب له نصارى أوروبا الغربية وتوافدوا على طليطلة حتى ضاقت بهم نواحيها (100ألف مقاتل)، ولم تستطع الجيوش الموحّدية أن تصمد أمامهم في موقعة العقاب (609هـ/1212م) فهُزِمت شرّ هزيمة وعادت الأندلس مجدّدا إلى مربّع الفناء لكن دون نجدة هذه المرّة..

وتلك الأيّام نداولها بين الناس

ما أسرع ما انشقّ البيت الموحّدي وتفرّق شمله وانشطرت السّلطنة إلى أربعة ممالك:فاستقلّ الحفصيّون بتونس وبنو مرين بالمغرب الأقصى وبنو عبد الواد بالمغرب الأوسط، وثارت الأندلس واضطرب الأمر فيها وعادت إلى الانقسام والتّشتّت على شاكلة ملوك الطّوائف، في المقابل استفحلت حركة الاسترداد الصّليبية وعظم خطرها لاسيما بعد اضمحلال الدّولة الموحّدية وانعدام دولة قويّة في المغرب الإسلامي تضطلع بواجب النّصرة: فتقاسمت الممالك الإسبانية الأدوار فيما بينها للإجهاز على الأندلس، فحاصر ملك أرغونة بلنسية إلى أن استسلمت له، واكتسحت مملكة البرتغال الأراضي الإسلامية غرب الأندلس، واستحوذ ملك قشتالة فرديناند على عاصمة الأمويّين قرطبة سنة 1236م.. ومن مخازي ملوك الطّوائف أن محمّد بن الأحمر صاحب غرناطة دخل في حلف مع فرديناند ضدّ بقية الأمراء المسلمين وسلّمه مدينة جيّان وتركه يحاصر إشبيلية 18 شهرا دون أن ينصر المسلمين فيها إلى أن سقطت، وبذلك لم يبق للمسلمين بالأندلس إلاّ غرناطة وما حولها في رقعة ساحليّة ضيّقة بالجنوب..في الأثناء استولت مملكة قشتالة وأرغونا على جبل طارق لقطع المدد من المغرب وعزلت غرناطة وأحكمت الحصار على أهلها، فصمد المسلمون وصبروا وأبدوا تفانيا عجيبا في المقاومة والثّبات حتّى أكلوا الجلود وورق الشّجر، ولكن طول الأمد وقلّة المدد ونفاذ الذّخيرة وتفشّي الجوع والمرض أجبرهم على الاستسلام والخضوع وذلك بتاريخ الثاني من جانفي 1492م/897هـ، وغادرها أهلها ملء العين دمعا والقلب حسرة ودخلتها جيوش فرديناند الكاثوليكي في موكب صليبي رهيب وانقرض بذلك آخر مظهر للسيادة الإسلامية بالأندلس (وتلك الأيّام نداولها بين النّاس)..

كيف وإن يظهروا عليكم

ورغم أن وثيقة تسليم غرناطة التي صادق عليها البابا نفسه اشتملت على 67 شرطا تضمن احترام المسلمين في دينهم وأملاكهم وأمنهم وحرّيتهم، إلاّ أنها ظلّت حبرا على ورق ونُقضت سنة 1499م فصدر قانون بتنصير المسلمين جبرا وتحريم إقامة شعائرهم الدّينية وإغلاق مساجدهم وتحويلها إلى كنائس ومنعوا من الاغتسال ودخول الحمّامات وحُظر عليهم تكلّم العربية وأُكرهوا على لبس الزّي الإسباني واستبدال أسمائهم العربية بأخرى إسبانية وأُحرقت مئات الآلاف من المخطوطات الإسلامية النّادرة، وصدق الله العظيم حيث قال (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاّ ولا ذمة).. وفي عهد فيليب الثالث اعتبر وجود المسلمين بإسبانيا خطرا على الدّولة الكاثوليكية وصدر في حقّ من بقي منهم متمسّكا بدينه أمر بالنّفي والجلاء في 22/10/1609م فحُشدت لهم السّفن وهُجّروا قسرا إلى المغرب العربي ومصر والأستانة، وقد قدّر الباحثون عدد الذين طُردوا من الأندلس منذ سقوط بلنسية بقرابة 4 ملايين نسمة وهو رقم مهول لاسيّما بمقاييس ذلك العصر.. وعلى هذه الصورة المرعبة اجتُثّ الوجود الإسلامي بالأندلس بعد ثمانية قرون من الفتح ووقعت تصفية أعظم حضارة عرفتها القارّة الأوروبية في العصور الوسطى نتيجة لتخاذل أهلها وتدابرهم وارتهانهم للكفرة وتخلّيهم عن واجب الجهاد.. ولتقريب صورة هذه الجريمة التاريخية من الأذهان ،تخيّلوا أن الهنود الحمر يعمدون سنة 2300م إلى طرد البيض وسائر الأجناس الأخرى من القارة الأمريكية بعد ثمانية قرون من استيطانهم فيها والحضارة المزدهرة التي أنشؤوها هناك هذا بالضبط ما وقع للإسلام والمسلمين في الأندلس..

CATEGORIES
TAGS
Share This