رجـــل الدولـــة

رجـــل الدولـــة

كثر الحديث في الأيّام الأخيرة عن رجل الدّولة، وحاجة تونس إلى رجال دولة حقيقيين وممّا قيل: أنّ هناك فرقا بين السياسيين ورجال الدّولة، وأنّ تونس فيها الكثير من السياسيين أمّا رجال الدّولة فقلّة قليلة. أساس التفريق حسب هذا التقسيم أنّ السياسيين هم من يسعى إلى الوصول إلى الحكم أمّا رجل الدّولة فهو من كان ذا شخصيّة قويّة وقدرة على أخذ القرارات الصّعبة دون تردّد.

في ظاهر هذا القول شيء من الصّواب، فمن صفاة رجل الدّولة اللازمة أن يكون قويّ الشخصيّة يؤثّر في الواقع ولا يتأثّر به، وأن يكون متابعا دقيقا للواقع لمعالجته والسير به نحو غايات مرسومة واضحة. ورجل الدولة هو القائد السياسي المبدع الذي يتميّز بعقلية الحكم، والقدرة على إدارة شؤون الدولة ومعالجة المشاكل والتحكم في العلاقات الخاصة والعامة. هذا من صفات رجل الدولة الهامّة. لكنّ هذه الصّفات وحدها لا توجد رجل الدّولة، فقد يحوز الدكتاتور والطّاغية بعض هذه الصّفات أو كلّها: من قوّة الشخصيّة ومن التأثير في الواقع. ولكنّه مع ذلك ليس برجل دولة أو على الأقلّ ليس هو المطلوب وجوده أو الاحتذاء به. وقد يحوز قدرات عالية ولكنّه يضعها في غير موضعها أو يسخّرها لأعداء أمّته.

فمن هو رجل الدّولة الحقيقيّ؟ ومن أين يأتي؟ وما هي التربة الصالحة المساعدة على إنباته؟

 

لا يمكننا الحديث عن رجل الدّولة في المطلق، فرجل الدّولة هو الرجل الذي بنى أو ساهم في بناء دولة حقيقيّة مستقلّة ذات سيادة فعليّة على قراراتها، ورجل الدّولة هو الذي كوّن أمّة متميّزة عن سائر الأمم أو ساهم في تكوينها أو كان عاملا على تعزيزها ورفعتها بين الأمم، بحيث تسود هذه الأمّة (في حياتها العملية وفي علاقاتها الداخلية والخارجية) أفكار الحكم الرفيعة الراقية ويكون الحكم فيها رعاية لشؤون الانسان من حيث هو انسان، ويتملك أفرادها (فضلا عن قادتها)الإحساس بالمسؤوليّة عن جميع الناس حتى من هم خارج حدودها، وتكون قادرة على إنقاذ الانسان أيّ انسان من الظّلم والطّغيان، بقدرتها على أن ترعى شؤونهم الرعاية الكريمة وتعالج مشاكلهم العلاج الأمثل، والأمّة التي ينبت فيها رجل الدّولة هي من يستولى على أفرادها إحساس بقيمتهم الذاتيّة بين الأمم والشعوب، فيندفعون لاقتعاد مكانة سامية في العالم، ويسعون سعيا أن تكون دولتهم في  مركز القيادة في العالم أجمع. هذه هي الأمّة الحيّة القويّة التي تنبت رجال دولة من الطّراز الرّفيع.

 ولقد كانت الأمّة الإسلاميّة منبتا خصبا لرجال دولة من الطّراز الرّفيع فهم آمنوا بالله ربّا وبمحمّد صلّى الله عليه وسلّم رسولا وحملوا رسالة ربّهم مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبنوا معه أمّة من أعظم أمم الأرض، ثمّ ساروا بعده يحملون خير الإسلام ونوره إلى البشريّة فأنقذوها، وثقّفوا العالم  بالإسلام العظيم وبالعلوم اللازمة حتّى انضمّ إلى العرب شعوب أخرى وانصهروا في أمّة واحدة قويّة انجبت الالاف ممن  يتمتعون بوصف رجل الدولة، سواء منهم من كانوا في الحكم كعمر وعليّ وعقبة ابن نافع والمعتصم وصلاح الدين ومحمد الفاتح، او من ظلوا من أفراد الرعية كابن عباس والاحنف بن قيس، وأحمد ابن حنبل والقاضي عياض، تقيّ الدّين النبهاني، كانوا جميعا  يصدرون عن عقيده الإسلام، ويملكون الطريق السياسي ويتمتعون بالاحساس بانهم مسؤولون عن جميع الناس لهدايتهم وتبليغهم دعوة الاسلام وتطبيق  الاسلام عليهم، عدا عن المسؤولية في الداخل، فسمعنا عمر بن الخطاب يقول ” لو أن دابّة بسواد العراق عثرت لخشيت أن يسألني الله عنها لمَ لَمْ أمهّد لها الطريق ” والمعتصم تصله صرخة من مسلمة بارض الروم تقول ” وامعتصماه ” فيخف لنجدتها ويجرّد جيشا قاده بنفسه حتّى أوغل فاتحا في بلاد الروم ليحتل مسقط رأس امبراطورهم، واحمد بن حنبل يتعرض للضرب والتضييق ليقول بخلق القران، فيصبر على الضرب والسجن ولا يهادن الحاكم كي لا يضلّ المسلمون، فمثل هذا الاحساس بالمسؤولية عن الغير شرط لازم  في رجل الدولة. كما أنّه لن يقدر على بناء دولة حقيقيّة مستقلّة حتّى يكون له رؤية تحدّدها نظرته للكون والانسان والحياة أي حتّى يكوّن نظرته الخاصّة عن الحياة ومنها يحدّد أهدافا سامية لا أهدافا تافهة ويجعل لنفسه ولأمّته غاية نبيلة هي هداية البشريّة وإنقاذها.

وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ

عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ

وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ

وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها

 

فهل ينطبق هذا على رجال الحكم اليوم في تونس أو في باقي البلاد الإسلاميّة؟

ألقاب مملكة في غير موضعها *** كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد

في تونس اليوم كما في باقي البلاد الإسلاميّة يتميّز السياسيّون ومن يزعمون أنفسهم رجال دولة بتعظيم الغرب والحكومات الغربيّة بل يتفاخرون بأنّهم تلامذته النّجباء، فلم تكن السياسة عندهم إلا اتّباعا للغرب في الأفكار السياسيّة وفي تفاصيلها وفي كيفيّات تطبيقها، ولا يكتفون بأخذ الأفكار بل يستندون إلى القوى الغربيّة في تنفيذها ويستقوون بها للوصول إلى الحكم، فالاستناد إلى المستعمر والاستقواء به سمة أساسيّة فيهم. ومقياس النّجاح عندهم مقدار القرب من الغرب ومن أهمّ عوامل نجاح أيّ سياسيّ عندهم هي القدرة على حيازة رضا الدّول الغربيّة والقدرة على خدمة مصالحهم.

هذا وتعشّش فكرة الوطنيّة المنحطّة في عقول السياسيين والحكّام، فرضوا أن تقسّم أمّتهم إلى دويلات هزيلة ضعيفة، وصاروا يرون تونس مستقلّة (ولكن مستقلّة عن باقي الأمّة الإسلاميّة) وصاروا  يقولون أنّ تونس بلد صغير ضعيف يحتاج إلى دعم وحماية، وأنّه لا غنى عن دعم البلدان الأوروبيّة (المستعمر القديم).

ومن ثمّ كان الهدف الأساسيّ الذي وضعوه للشعب في تونس هو تحقيق التنمية والتنمية عندهم هي تحصيل المعاش مجرّد المعاش من أكل وشرب ومسكن ولباس، (أمّا الصحّة والتعليم والأمن فرفاهيّة لمن استطاع إليها سبيلا)  فهدف المجتمع عندهم هو الوصول إلى رفاهيّة العيش وفق المقياس الرأسمالي أي تحصيل المنافع الماديّة بأكبر قدر ممكن. وأنّ ذلك غير ممكن إلا بالاستعانة بالغربيّ.

ويرون أنّ تونس يجب أن تكون مندمجة في المنظومة الرأسماليّة العالميّة، وهذا يعني تغيير هويّة الشّعب وسلخه نهائيّا عن دينه وأمّته.

 هذه الرؤية هي بالضبط ما صاغه ساسة الدّول الاستعماريّة للبلدان التي استعمروها لمّا قرّروا بعد الحرب العالميّة الثانية أنّ الاستعمار العسكري المباشر لم يعد مناسبا فكان لا بدّ من ضمان سيطرتهم على مستعمراتهم قبل إخراج عساكرهم منها، ومن أجل ذلك ثقّفوا مجموعة من كلّ بلد بالثقافة الغربيّة ثمّ جعلوهم حكّاما ثمّ وضعوا لهم الرؤى والأسس التي يجب أن يسيروا عليها، وكلّ ذلك من أجل تشكيل العالم وفق رؤيتهم الرأسماليّة ليكون لكلّ شعب أو دولة دور مرسوم ترسمه لهم الدول الكبرى، وعليه فالمقصود هو جعل تونس دويلة بشكل مخصوص رسمته القوى الاستعماريّة:

  • يجب أن تبقى تونس دويلة هزيلة مفصولة عن باقي الأمّة الاسلاميّة وأطلقوا على هذا الفصل اسم الاستقلال وأن تكون تابعة للغرب تبعيّة كاملة

  • يجب أن يتمّ إبعاد الإسلام نهائيّا.

وهذا الشكل يجعلها في ذيل الأمم دورها منحصر في خدمة الدّول الكبرى بتوفير اليد العاملة الماهرة والرّخيصة وأن تكون أرضها مرافئ ونقاط ارتكاز للشركات العالميّة الكبرى، وأمّا أهلها فغاية الأمر أن يجدوا لأنفسهم مكانا تحت الشمس همّهم الأكبر تحصيل القوت وبعض الرفاهيّة التي تسمح بها القوى العظمى، أي أنّ دور تونس (كسائر الشعوب المسيطر عليها) لا مجال لها عالميّا في تحديد ما يجب أن يكون عليه العالم. ممّا يعني أنّ الدّول الاستعماريّة تريد أن تجعل من تونس إقليما تابعا للغرب كأقاليم ما وراء البحار التي اصطنعتها فرنسا وبريطانيا. وكأنّها بلا تاريخ ولا حضارة، وكأنّ أهلها المسلمين ليسوا أصحاب رسالة عالميّة. يُراد لهم أن يكونوا خدما لغيرهم.

أفيكون رجل دولة من كان في خدمة الدّول المستعمرة وعمل لتحقيق ما رسمته؟ وهل يمكن أن نعدّ قوّته الفكريّة وعبقريّته السياسيّة وقوّة شخصيّته وقدرته على التأثير فيمن حوله، صفات حميدة تسوّغ لنا وصفه برجل الدّولة أم إنّها مجرّد قدرات وطاقة سخّرها لأعداء شعبه؟

فليحذر الذين يوزّعون الألقاب على من هبّ ودبّ نفاقا يبيعون شرفهم وأقلامهم بعرض من الدّنيا زائل، وليعلموا أنّهم ميّتون وأنّهم ملاقوا ربّهم العزيز الجبّار الذي لا تخفى عليه خافية

محمد الناصر شويخة

CATEGORIES
TAGS
Share This