على هامش العودة المدرسيّة: كيف السّبيل إلى المصالحة بين المؤسّسة التّربويّة وعقيدة الأمّة

على هامش العودة المدرسيّة: كيف السّبيل إلى المصالحة بين المؤسّسة التّربويّة وعقيدة الأمّة

ونحن نستقبل هذه السنة الدراسيّة والجامعيّة هناك سؤال مركزيّ يتردّد صداه على ألسنة الجميع ـ تلاميذ وأولياء وإدارة ورجال تعليم ـ كيف السبيل إلى تحسين نسب النجاح..؟؟ فعمليّة التقييم وما يصاحبها من أعداد ومعدّلات وارتقاء أو رسوب هي الهمّ المشترك والهاجس المؤرّق الذي يقضّ مضاجع الجميع بصرف النظر عن المواد المُدرَّسة والمناهج المُتَّبعة والقيم والمفاهيم المتداولة ،بحيث أنّ كلّ الاهتمام منصبّ على شكل العمليّة التربويّة وقشرتها الخارجيّة ـ التدرّج من قسم إلى آخر للحصول على (شهادة) نقتحم بها سوق الشغل ـ أمّا مضمونها ولبّها والجانب التكوينيّ فيها فلا يُحتفى به ولا يُسأل عنه مع أنّه جوهر العمليّة التربويّة: فالتعليم هو بالأساس نحت لشخصيّة وتركيز لهويّة قبل أن يكون هيكلا تقييميّا إقصائيّا صارما للتوظيف والتشغيل شعاره البقاء للأصلح.. ويتأكّد هذا الترابط العضويّ خاصّة مع شريحة الشباب المفصليّة في تركيبة المجتمعات البشريّة، فهي دماء حارّة حيّة تُضخّ في شرايين المجتمع حاملة لجينات الأمّة ناقلة لمواصفاتها الثقافيّة والحضاريّة ضامنة لاستمرار مُورِّثاتها العقائديّة ،وإنّ استهداف تلك الشّريحة يعني عمليّا ضرب هويّة الأمّة وحاضرها ومستقبلها وديمومتها وتواصلها.. هذه الشريحة المفتاح الحيويّة لكلّ مجتمع بشريّ لا يخفى على أحد ما تمرّ به حاليّا من أزمة هويّة خانقة، فهي مُستهدَفة في ذاتها وانتمائها تعاني من الاستلاب الثقافيّ والدّونيّة الحضاريّة والاغتراب العقائديّ وتفشّي الميوعة والتفسّخ تحت مسمّيات برّاقة من قبيل التطوّر والحداثة والعصرنة والانفتاح والمثاقفة والعولمة وحوار الحضارات.. وللمفارقة فإنّ هذا الانتحار الحضاريّ والموت البطيء يحصل بقفّازات محليّة إذ نمارسه بأنفسنا نيابة عن الكافر المستعمر ضدّ فلذات أكبادنا في مؤسّساتنا التربويّة ثمّ نقف مشدوهين عاجزين نتدافع التّهم وننحو باللاّئمة على سائر الأطراف ونتابع بكلّ أسى وحسرة ما أضحى عليه أبناؤنا من انحراف ومسخ وتدهور معرفيّ وانحلال أخلاقيّ بما يؤسّس لهذا التساؤل المحرق: ألم نوكل إلى المؤسّسة التربويّة مهمّة تغذية النّاشئة بمقوّمات حضارتنا وثقافتنا ،فكيف يُعقل أن تُنتِج نسخا مختلفة عن الأصل..؟؟ ولِمَ لا نجد صدى لأنفسنا في أبنائنا التلاميذ..؟؟ 

مفارقة عجيبة

إنّ حال الانفصام في الشخصيّة التي يعاني منها شبابنا اليوم أسبابها متعدّدة متداخلة متضافرة وتتمحور أساسا حول الأسرة والسلطة والإعلام والشّارع والمؤسّسة التربويّة: فالأسرة استقالت عن وظيفتها التربويّة بحكم نسق العصر وظروف الشّغل وإغراء المؤسّسات الموازية التي تكفّلت بفلذات أكبادنا منذ الحضانة..والسّلطة الحاكمة تنتهج سياسة تربويّة تغريبيّة استئصاليّة انبتاتيّة محاربة للهويّة الإسلاميّة..ووسائل الإعلام متناغمة مع خطّ السّلطة التغريبيّ تبثّ السّموم وتفتّت رواسب الحياء لإفساد عقول وسلوكيّات الشباب..والشّارع إفراز طبيعيّ لما يعتمل في المجتمع ويحاك في الكواليس..أمّا معول الهدم الرئيسيّ والأداة المنفّذة الفتّاكة فهي ـ بامتيازـ المؤسّسات التربويّة التي أضحت فعلا تقوم بعكس وظيفتها المفترضة شكلا ومضمونا وأسلوبا :فقد تحوّلت إلى بؤر فساد ومسخ وتغريب وتفسّخ أخلاقيّ وتسميم فكريّ، كما أضحت الجامعات منابر سافرة لمحاربة الهويّة الإسلاميّة وأبواق دعاية لتكريس التبعيّة الثقافيّة والسياسيّة للغرب.. وهذا ليس من قبيل الصّدفة أو الفشل ،فالفعل التربويّ ليس اعتباطيّا بل مدروس ومُبَرمج وخاضع لبيداغوجيا الأهداف يروم تحقيق مواصفات دقيقة محدّدة سلفا..فطينة التلاميذ التي تصادفنا هذه الأيّام ليست حدثا شاذّا معزولا يُحفظ ولا يُقاس عليه ولا تمثّل قصورا وإخفاقا في الفعل التربويّ بقدر ما هي ثمرة عمل مدروس موجّه خاضع لضوابط صارمة نجحت المؤسّسة التربويّة في تحقيقه في مفارقة عجيبة وخطيرة :فالأصل في هذه المؤسّسة أن تضمن تواصل التلاميذ مع موروثهم الثقافيّ والحضاريّ وأن تركّز فيهم الشّخصيّة الإسلاميّة وتزوّدهم بسائر العلوم والمعارف..فهل تجسّدت في شبابنا اليوم ـ بوصفهم ثمرة تلك المؤسّسات ـ الهويّة الإسلاميّة شكلا ومضمونا ،فكرا وممارسة ،اعتقادا وسلوكا..؟؟ هل تركّزت فيهم الثقافة الإسلاميّة أم حُشِيت أدمغتهم بقشور الفكر الغربيّ الزّائفة وسمومه الفتّاكة..؟؟ هل أنّ مُثُلهم العليا في الحياة مُنتزعة من التّاريخ الإسلاميّ الزّاخر بالأبطال والأفذاذ أم من حاضر الغرب الموبوء بنجوم الإثارة والرقص والغناء وكرة القدم..؟؟ هل أنّ العقيدة الإسلاميّة أساس تفكيرهم وميولهم..؟؟ هل هم في نهاية الأمر شخصيّات إسلاميّة راسخة في هويّتها عقليّة ونفسيّة، أم شخصيّات غربيّة منبتّة ،أم كائنات ممسوخة لا لون لها ولا طعم ولا رائحة..؟  

تشخيص العلّة

من المؤسف فعلا أن نعترف بأنّ شبابنا اليوم أبعد ما يكونون عن الشخصيّات الإسلاميّة، وهذا ليس تكفيرا لهم ،فرغم اعتناقهم للعقيدة الإسلاميّة فإنّهم لم يجعلوها أساسا لتفكيرهم وميولهم أي أساسا لعقليّاتهم ونفسيّاتهم، والذنب ليس ذنبهم فهم ضحايا سياسة تربويّة وإعلاميّة مُنتهجة من طرف السلطة..إنّهم مسلمون إداريّا بمضمون الولادة وجغرافيّا بالتموقع على الخريطة، رأسمالهم (السميق) الإسلاميّ أي العقيدة المتوارثة آليّا، إنّهم في أفضل الحالات شخصيّات متباينة غير مميّزة بلون خاصّ متناقضة في تركيبتها مصابة بشبه انفصام فأفكارها غير ميولاتها ومشاعرها منفصلة عن إدراكها.

إنّهم خليط لا متجانس من العقليّات والنفسيّات تفتقد إلى قاعدة فكريّة مُوَحَّدة يجري بحسبها إدراك الأشياء وإشباع الجوعات.. إنّهم كائنات هلاميّة ممسوخة لا ميزة لها تجري في عروقها مياه صالحة للشّراب بحيث يتعذّر تصنيفهم بشكل دقيق، فلا هم انبتّوا عن الإسلام صراحة ولا وثّقوا عُراهم بعقيدتهم وثقافتهم وحضارتهم، ولكن الأكيد أنّهم ليسوا شخصيّات إسلاميّة..هذا التشخيص للدّاء يجعلنا بإزاء تساؤل مركزيّ من واجبنا أن نجد له إجابة عمليّة ناجعة :كيف يمكن أن نعيد المؤسّسة التربويّة إلى حضن الإسلام وأن نصالحها مع الهويّة الإسلاميّة..؟؟ كيف نجعلها مكرّسة للشّخصيّات الإسلاميّة عقليّة ونفسيّة مواكبة بالتّوازي للعلوم والصناعة والتقنيّات الحديثة..؟؟ هذه المعادلة الصّعبة ظاهريّا يقتضي تحقيقها هيكلة كليّة للمؤسّسة التربويّة تُرسي منظومة تعليم إسلاميّة وذلك بالتّركيز على أربع نقاط: أوّلا وضع سياسة تعليميّة أي قاعدة فكريّة تُعطى على أساسها المعلومات..ثانيا تحديد غاية واضحة من التعليم..ثالثا إرساء طرق ومناهج تدريس كفيلة بتحقيق الغاية..رابعا توفير ظروف مساعدة في إنجاز العمليّة التربويّة على أفضل وجه.. 

السّياسة والغاية

فيما يتعلّق بسياسة التّعليم فإنّ الأساس الذي يجب أن يقوم عليه منهج التعليم هو العقيدة الإسلاميّة ،فتوضع موادّ الدّراسة وطرق التدريس على الوجه الذي يُلزمها بذاك الأساس :فلمّا كانت العقيدة الإسلاميّة هي أساس حياة المسلم وأساس الدّولة الإسلاميّة والمجتمع والعلاقات فإنّ كلّ معرفة يتلقّاها المسلم لا بدّ أن يكون أساسها العقيدة الإسلاميّة في جميع مناحي الحياة..فالمعارف المتعلّقة بالعقائد والأحكام يجب أن تنبثق رأسا عن العقيدة الإسلاميّة ،أمّا سائر المعارف فيجب أن تُبنى على العقيدة الإسلاميّة بأن تُتَّخذ مقياسا لها فما ناقضها يُرَدّ ولا يُعتقد وما لم يُناقضها جاز أخذه..أمّا من حيث المعرفة والاطّلاع فلا مانع من تعلّمها ولكن لا تُقرّر في منهج التعليم بشكل يؤدّي إلى الاعتقاد فيها، فلا تقرّر في المستويات الدّنيا الكفيلة بتكوين الشخصيّة بل تقرّر في المستويات العليا الملقّحة من أجل ضربها ونقض أفكارها وبيان زيفها وتهافتها..أمّا فيما يتعلّق بالغاية من التعليم فيجب أن تنْصَبّ على تكوين العقليّة والنفسيّة الإسلاميّتين ،أي أن يكون القصد من التعليم وإنتاج المؤسّسة التربويّة هو إيجاد الشخصيّة الإسلاميّة وتزويدها بسائر العلوم والمعارف المتعلّقة بشؤون الحياة، فتوضع جميع موادّ الدّراسة وفق هذه السّياسة وتُضبط المناهج على الوجه الذي يحقّق تلك الغاية.. ولمّا كانت المعارف والمعلومات السّابقة هي التي تكوّن عقليّة المسلم ونفسيّته فلا بدّ أن تكون هذه المعارف كلّها مبنيّة على العقيدة الإسلاميّة: فتكوين العقليّة والنفسيّة ليس فطريّا طبيعيّا بل ثقافيّ يجري بفعل الإنسان وما على المؤسّسة التربويّة إلاّ أن تعمل على بناء الشخصيّة الإسلاميّة وتنميتها ،أوّلا بالتركيز على الثقافة الإسلاميّة والمعارف الشرعيّة لتبني عقليّة المتلقّي وتجعله يفهم ويدرك ويعقل ويحكم وفق وجهة نظر الإسلام في الحياة..وثانيا بالتركيز على العبادات والقربات والطّاعات وشحذ الميولات الإسلاميّة لتجعل من المتلقّي يُشبع غرائزه وحاجاته العضويّة بالكيفيّة التي يقرّها الشّرع الإسلاميّ. وحتّى تكون الشخصيّة الإسلاميّة متوازنة يجب تطعيمها بالمعارف العلميّة ليتمكّن المسلم من عمارة الأرض التي استخلفه الله فيها.. 

الطرق والمناهج

في ظلّ المنظومة التعليميّة العلمانيّة تعمّدت مؤسّساتنا التعليميّة تدريس الإسلام بشكل يفضي إلى تشويهه وعدم الاعتقاد فيه واعتناقه: فقد أهملته وهمّشته كمادّة من المفروض أن تكون أساسيّة لتركيز الشخصيّة الإسلاميّة في النّاشئة، فأُدرج كأيّ مادّة ثانويّة بما يحيل عليه ذلك من تبسيط وتسطيح وتتفيه وتمييع من حيث التوقيت والضّوارب والآفاق.. لذلك تحوّلت شعبة العلوم الإسلاميّة إلى مزبلة الشّعب فلا يلتحق بها إلاّ النوعيّة الرّديئة من الطلبة التي أُسعِفت بالنجاح ولم تُقبل في أيّة شعبة أخرى وأجبرها الحاسوب على ذلك الاختيار، فصارت دراسة الإسلام مجرّد وسيلة لكسب الرّزق لا أثر لها في نفس دارسها ولا في المجتمع..كما صارت شأنا نظريّا نخبويّا قائما على البحث الفكريّ المجرّد الجافّ البعيد عن الوقائع الجارية تماما كالفلسفات الطوباويّة الخياليّة، وصار الشّرع يُدرّس كمسائل روحيّة أخلاقيّة لا بوصفه أحكاما عمليّة تعالج مشاكل النّاس..في المقابل فإنّ طريقة الإسلام في الدّرس قائمة على التلقّي الفكري والتعمّق في البحث والاعتقاد فيما ندرس وأخذه بشكل عمليّ لتطبيقه في معترك الحياة ،وبذلك تتركّز الثقافة الإسلاميّة بشكل مؤثّر في النفوس لأنّها مبنيّة على الاعتقاد بحيث أنّ الربط بين الحكم الشرعيّ ودليله الذي استُنبِط منه يجعل الأفكار المدروسة مثيرة ومؤثّرة وواقعيّة وصادقة وناجعة، كما يخلق جوّا إيمانيّا في نفسيّة الدّارس يجعل منه طاقة جبّارة ويصله بالله في جميع تصرّفاته..

ظروف العمليّة التربويّة

أمّا فيما يتعلّق بظروف إنجاز العمليّة التربويّة فإنّ دور المؤسّسة يكمن في استثارة التعلّم والمتعلّم معا، أي توفير وضعيّة ملائمة للتلقّي العلميّ ولحركيّة ثقافيّة تربويّة ثريّة وناجحة ،وهذا يتحقّق في إطار الضوابط الشرعيّة: فيجب ألاّ يكون التعليم مختلطا بين الجنسين إن في الطلبة أو في الأساتذة ،ويجب أن يلتزم الطلبة وإطار التدريس باللّباس الشرعيّ وأن يتقيّدوا في أخلاقهم وسلوكيّاتهم بالضوابط الشرعيّة..كما يجب أن تشيع في المؤسّسات أجواء الاحترام والتقدير والتوقير للعلم والعلماء وأن يقع التشدّد في القوانين الإداريّة الزّاجرة للسلوكيّات المشينة حتّى تسود أجواء ملائمة لتلقّي العلوم تقطع الطّريق أمام الفسق والفجور والفساد الذي وصم التعليم الحاليّ وحرف المؤسّسات التربويّة عن رسالتها النبيلة وهيّأها للقيام بعكس وظيفتها المفترضة..بهذه الكيفيّة نجعل من المؤسّسة التربويّة منارة علم وثقافة وحضارة تكرّس الشخصيّات الإسلاميّة وتصالح الشّباب مع هويّته وأمّته وخالقه..إلاّ أنّ هكذا مشروع عصيّ على مناط الدّولة الوطنيّة التّابعة العميلة ولا يتحقّق إلاّ في إطار دولة إسلاميّة خلافة راشدة على منهاج النبوّة تُسخّر جميع منظومات الحياة ـ بما فيها المنظومة التربويّة ـ لمقتضيات العقيدة الإسلاميّة فهل نحن فاعلون..؟؟

بسّام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This