معركة الجلاء ضريبة دمويّة ثقيلة لإرضاء غرور بورقيبة ومطامع بريطانيا

معركة الجلاء ضريبة دمويّة ثقيلة لإرضاء غرور بورقيبة ومطامع بريطانيا

حدّث أبو ذرّ التونسي قال: تمرّ بنا هذه الأيام الذّكرى الخامسة والخمسون لما اعتُبر في التّاريخ الرّسمي (جلاء لآخر جندي فرنسي عن الأراضي التّونسية)، وهي ذكرى من المفترض أن تكون عزيزة على الكيان التونسي المتهالك المتأزّم تشحذ فيه المشاعر الوطنيّة المنطفئة وتنعشها بجرعة أكسيجين…إلاّ أنّها مرّت ـ كباقي المناسبات الوطنيّة ـ باهتة باردة شكليّة خجولة أشبه شيء بالتزام ثقيل سرعان ما تخلّص النّظام منه، ولا غرابة في ذلك: فقد أضحى الاستعمار في تونس حاضرًا بالغياب متغلغلاً في العقول والقلوب ـ سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا ـ بشكل لا يحتاج معه إلى وجود عسكري ميداني…فهو عمليًّا الحاكم الفعلي للبلاد يشرف على كلّ كبيرة وصغيرة فيها ـ من كواليس مجلس النوّاب والدّوائر الحكوميّة إلى القضاء والإعلام والصحّة والعقيدة الأمنيّة ـ كما يستفردُ بخيراتها وثرواتها لخاصّة نفسه ويهيمن على مقدّراتها ويجثم على حاضرها ومستقبلها…والأدهى والأمرّ من ذلك أنّه تحوّل إلى صنم وقبلة ومعبود ومرجع، فمن الذي سيحتفل بجلائه عن البلاد: الشباب المضلّل المنبهر بمدنيّته الخادعة الزّائفة الذي يجازف بحياته في رحلة (الحرقة) إلى جنّته الموعودة..؟؟ أم المثقّفون المضبوعون بفكره وحضارته الذين يتّخذونه مثالاً يُحتذى ونموذجًا متكاملاً للتقدّم والرُّقي..؟؟ أم الوسط السّياسي الذي يأتمر بأوامره ويستعديه ـ جهارًا نهارًا ـ على الإسلام والمسلمين ويحثّه للعودة كلّما ظهرت بارقة أمل في الأمة..؟؟ فعن أيّ جلاء نتحدّث في ظلّ هذه الحال من الدّونيّة والتبعيّة والارتهان والتّفقير والنّهب والمسخ والقهر ومحاربة الله ورسوله..؟؟ ورغم أنّ أكذوبة الجلاء والاستقلال معلومة بالبداهة عند القاصي والدّاني يُفنّدها واقع النّظام التونسي الحالي بالمشاهد الملموس، إلاّ أنّ هناك بعض الزّوايا المظلمة التي حفّت بها من المفيد أن نسلّط الضّوء عليها: فهل كان من الضّروري دفع تلك الضّريبة الدّموية الثقيلة مقابل اتّفاقيّة الجلاء الشكليّة الهزيلة..؟؟ ألم يكن بإمكان بورقيبة اعتماد حلول دبلوماسيّة سلميّة..؟؟ هل كانت معركة بنزرت بحقّ معركة الشعب التونسي التوّاق للانعتاق والتحرّر من نير الكافر المستعمر أم معركة بورقيبة الشخصيّة لتكريس زعامته وإثبات ولائه لبريطانيا..؟؟

جلاء أم إجلاء..؟؟

في الواقع لا يمكن فهم حرب بنزرت أو معركة الجلاء كما تسمّى رسميًّا في تونس بمعزل عن سياقها السياسي الممتدّ بين سنتي 1956 و 1961، وهي فترة دقيقة في تاريخ البلاد التونسيّة شهدت خلالها نقلة نوعيّة من حيث طبيعة العمالة وجهة الولاء في ظلّ ظهور قواعد جديدة للصّراع الدولي وأشكال مستحدثة للاستعمار…فقد سعت الدول المنتصرة في الحرب العالميّة الثانية ـ لاسيما أمريكا وبريطانيا ـ إلى وراثة مستعمرات الدّول المنهزمة ووضع ترسانة تشريعيّة ( تصفية الاستعمار ـ حريّة الشعوب في تقرير مصيرها ـ عدم الانحياز…) وأخرى عسكرية (افتعال الثّورات وتسليحها ودعمها دبلوماسيًّا…) لإرغام المنهزمين على إخلاء مستعمراتهم لصالحها…في هذا الإطار مثّلت منطقة شمال إفريقيا مسرحًا لصراع أمريكي ـ بريطاني على اقتسام التّركة الفرنسيّة، ولم يكن من السّهل دفع فرنسا إلى تصفية إرثها الاستعماري: فرغم أنّها مكّنت كلاًّ من المغرب وتونس من الاستقلال إلاّ أنّها في المقابل تشبّثت بالجزائر وحرصت على الإبقاء على جزء من نفوذها العسكري والسياسي في كلا البلدين بما يُؤبّد تبعيّتهما لها ويمكنّها من إحكام السّيطرة على الجزائر…من هذا المنطلق ماطلت فرنسا في الإيفاء بالالتزامات المترتّبة  عن بروتوكول استقلال تونس وأصرّت على الاحتفاظ فيها بجيش قوامه أكثر من 20 ألف رجل وتمسّكت بالبقاء في خمس قواعد عسكريّة استراتيجيّة لاسيما قاعدة بنزرت التي تشرف على الحوضين الشرقي والغربي للمتوسّط وتتحكّم في الملاحة بينهما…وقد استند الموقف الفرنسي إلى اتفاقيّة 21/03/1942 الممضاة مع الباي والتي اعتُبرت بموجبها بنزرت وما تضمّه من منشآت عسكريّة وتحصينات ومياه إقليميّة وشبكة اتّصالات (ولاية بحريّة فرنسية شبه خارجة عن التراب التونسي)…أمام تعنّت فرنسا في الرّضوخ للجلاء الطّوعي انصياعًا للقانون الدّولي وقرارات الأمم المتّحدة تأكّدت حتميّة إجلائها القسري على أن يتكفّل نظام بورقيبة الفتيّ بتسديد الفاتورة الدّموية فيما تتولّى القوى العظمى أمر الواجهة الدبلوماسيّة عبر الضغط والإحراج وإصدار البيانات والقرارات مستعينة بأذرعها لا سيما الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدّولي…

ضريبة دمويّة ثقيلة

(كلّ الحروب قذرة وحرب بنزرت أقذرها) هكذا علّقت الصحافة الفرنسيّة نفسها على الأوضاع الميدانيّة في عاصمة الجلاء إبّان المعركة، وإحقاقًا للحقّ فلئن كانت معركة بنزرت منحسرة في الزمان والمكان لم تتجاوز المدينة ومنشآتها العسكريّة ولم تستمرّ أكثر من أربعة أيّام (من 19 إلى 22 جويلية 1961) إلاّ أنّ ضريبتها تجاوزت حجمها بكلّ المقاييس وذلك أوّلاً لتشبّث فرنسا بها نظرًا لأهمّيتها وعمقها الاستراتيجي، فقد اعتبر (ديقول) أنّها (تساوي وطنًا بأكمله ولا يمكن التّفريط فيها بسهولة)، وثانيًا لاختلال موازين القوى المشطّ بين جيش تونسي ناشئ فتيّ عديم الخبرة سيّئ التّسليح قليل العدد قوامه بضع مئات من المتطوّعين والكشّافة وبقايا المقاومين وبعض تشكيلات الحرس الوطني الفتيّ، وجيش الإمبراطوريّة الفرنسيّة النّظامي الحديث وفرقه البريّة والبحريّة والجويّة المدجّجة بأبشع وسائل الدّمار…الحدث القادح لمعركة بنزرت جدّ بتاريخ 30 جوان 1961 عندما أقدمت فرنسا  على القيام بأشغال توسعة للمطار العسكري بقاعدة سيدي أحمد بما يمكّنها من استقبال صنف متطوّر من القاذفات الحربيّة في خطوة تقصي نيّة الجلاء وتنبئ بإمكانيّة استخدامه في حرب الجزائر…ومع فشل الدبلوماسية التونسية في إثناء فرنسا عن عزمها أصدر الدّيوان السياسي للحزب الدستوري بيانًا يدعو إلى ضرورة خوض الحرب لاستعادة بنزرت وسرعان ما انطلقت يوم 05 جويلية عمليّات التعبئة الشعبيّة في كامل أنحاء الجمهوريّة وجرى إيفاد مئات المتطوّعين إلى بنزرت…ومع تصاعد وتائر الأحداث تحوّلت المظاهرات الشعبيّة الصّاخبة إلى تطويق للثكنات والتحصينات الفرنسيّة وإقامة للمتاريس وحفر للخنادق…يوم 19 جويلية انطلقت المواجهات الميدانيّة مع الجيش الفرنسي وما لبثت أن تحوّلت إلى حرب فعليّة استعرضت فرنسا فيها عضلاتها واستخدمت فيها جميع أنواع الأسلحة المحرّمة دوليًّا وحرّكت حاملة طائرات وثلاث بوارج حربيّة واستقدمت أفواج المظليّين من الجزائر، وطيلة أربعة أيّام بلياليها عاث الجيش الفرنسي فسادًا مُركّزًا على القصف الجوّي  للسدود والحواجز بالقنابل الحارقة والقذائف الصاروخيّة وقاذفات اللّهب، وأطلق الرّصاص الحي على المدنيّين الآمنين والمتظاهرين العُزّل والمقاتلين عديمي الخبرة وسيّئيّ التّسليح كما أطلق المدنيّون الفرنسيّون النّيران من شرفات منازلهم على جموع النّاس دون تمييز وسرعان ما تحوّلت المدينة إلى أكوام من الحطام والرُّكام والجثث التي تفوح منها رائحة الموت حتّى أنّ الأهالي عجزوا عن رفع جثث شهدائهم المتناثرة هنا وهناك…

مناورة عسكريّة

وبعيدًا عن الاحصائيّات الرّسمية المستهلكة التي تفيد بسقوط 670 قتيلاً وبعض الجرحى فقد أسفرت معركة بنزرت عن خسائر بشريّة فادحة وأدّت إلى حدوث مجزرة رهيبة فاق عدد ضحاياها الألفي شهيد بمعدّل 500 شهيد يوميًّا وهو رقم يتجاوز الذين سقطوا برصاص الاحتلال منذ انتصاب الحماية على تونس سنة 1881 وضريبة دمويّة ثقيلة بكلّ المقاييس…بعد تسديد هذه الضريبة الدّموية المجحفة صدر قرار عن مجلس الأمن بوقف إطلاق النّار وحلّ الأمين العام للأمم المتّحدة داغ همرشولد ببنزرت لمعاينة الأوضاع ونشطت الماكنة الدبلوماسية فصوّتت الجمعيّة العامّة بتاريخ 27 أوت 1961 بالأغلبيّة المطلقة على إدانة العدوان الفرنسي وطالبت بفتح تحقيق دوليّ وإجراء تفاوض بين الطّرفين، ثمّ انطلقت المفاوضات على مراحل أفضت إلى تحديد موعد للجلاء يوم 15 أكتوبر 1963…ويبقى السّؤال مطروحًا: هل كان من الضّروري فعلاً التضحية بذلك الكمّ الهائل من الشّهداء مقابل اتّفاقية شكليّة أجلت الجندي وكرّست النفوذ وأبدت التّبعية وقنّنت العمالة ناهيك وأنّ مقرّ السفير الفرنسي الحالي بضاحية المرسى هو نفس مقرّ المقيم العامّ الفرنسي زمن الحماية..؟؟ هل كان جلاء آخر جندي فرنسي عن بنزرت مؤشّرًا على استعادة السيادة الفعليّة على البلاد أم على استبدال استعمار عسكري فرنسي بآخر سياسي بريطاني؟؟ هل أنّ الألفي شهيد قد سقطوا قربانًا على مذبح الإنعتاق من نير الاستعمار أم وقود احتراب على مذبح الصّراع الدولي بين أمريكا وبريطانيا؟؟ هل كانت حرب بنزرت معركة الشعب التونسي ضد الكافر المستعمر أم معركة بورقيبة رجل بريطانيا في تونس المحشور في زاوية التجاذبات السياسيّة؟؟…خلافًا لحركة التاريخ ولكلّ التوقّعات والتحاليل السياسيّة التي تقضي بإيجاد مخرج سياسي سلمي لها، تحوّلت (أزمة بنزرت) إلى معركة بل حرب بأتمّ معنى الكلمة، والمفارقة العجيبة أنّ الذي نفخ في كيرها ودفعها دفعًا إلى تلك النّهاية الدراميّة هو الطرف الضّعيف الذي لا يقدر حسابيًّا لا على خوضها ولا على تكاليفها الماديّة والبشريّة ألا وهو الرئيس بورقيبة: فقد تقصّد تصعيد اللّهجة وكان سبّاقًا في أخذ قرار الحرب وفي نشوبها ميدانيًّا فيما اكتفت فرنسا الطّرف القويّ بالمتابعة والاستعداد إلى أن جُرّت إلى القتال جرًّا…

مأزق بورقيبة

ولفهم هذه الوضعيّة يجب استحضار سياق التجاذبات السياسيّة التي وجد بورقيبة نفسه في تيّارها: على المستوى الدّاخلي يخوض بورقيبة صراعًا مع بن يوسف الموالي لأمريكا على الزّعامة في البلاد ويواجه اتّهامات اليوسفيّين بالخيانة والعمالة والرّضا بشبه حكم ذاتيّ واستقلال منقوص في شكل صفقة مع الاستعمار…أمّا على المستوى الخارجي فيواجه أجندتين صارمتين ـ الأولى بريطانيّة والثّانية دوليّة ـ  تقضيان بتصفية الوجود الفرنسي بتونس حفاظًا على مصالح أسياده وتخفيفًا للضغط على الجزائر وإنفاذًا للمقرّرات الأمميّة، كما يواجه ضغوطات للتصدّي لمحاولات التسلّل الأمريكيّة صلب الوسط السياسي في البلاد…كلّ هذا في ظلّ أجواء من الثّورية العربيّة وشعار عبد النّاصر (ما أُخذ بالقوّة لا يُستردُّ إلاّ بالقوّة)…هذه الضغوطات بنوعيها تتقاطع حلولها عند نقطة جامعة مشتركة تتمثّل في سداد ضريبة بشريّة دمويّة ثقيلة: فهي وحدها الكفيلة بالتفاف الشّعب حوله ورجحان كفّة زعامته على حساب خصمه بن يوسف، والكفيلة بتفنيد اتّهامات اليوسفيّين واستكمال الاستقلال وإخراجه من دائرة المنّة المشروطة إلى دائرة الانتزاع البطولي…وهي وحدها الكفيلة بتحقيق المطامع البريطانيّة في السيطرة على كامل البلاد بما فيها قاعدة بنزرت الاستراتيجيّة، والكفيلة بتخفيف الضغط على الجزائر، وهي أيضًا الكفيلة بتحقيق التّناغم المنشود مع الأجواء الثورية النّاصرية المسيطرة على الشارع العربي آنذاك…فكان لابدّ من خوضها وكان لا بدّ من تسديد ضريبتها إرضاءً لمطامع بريطانيا وغرور بورقيبة، فكانت حرب بنزرت بامتياز حرب بورقيبة أمّا الشعب التونسي الذي مثّل وقودًا لها فلا ناقة له فيها ولا جمل، فلا جلاء وقعَ ولا استقلال تحقّقَ بل الحاصل هو استبدال استعمار عسكري فرنسي مفضوح بآخر سياسي بريطاني مقنّع…

بسّام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This