الإنتخابات البلديّة … الحَمل الكاذب

الإنتخابات البلديّة … الحَمل الكاذب

بين الحرص والدفع للتعجيل بالنظر في مشروع القانون المتعلق بتنقيح وإتمام “القانون الأساسي الخاص بالانتخابات والاستفتاء”، والدفع والتعجيل بالمصادقة على مشروع “مجلة الجماعات المحلية” كونها ضرورية لتفعيل الباب السابع للدستور ولإتمام الإطار القانوني المنظم للانتخابات البلدية و ذلك قبل موعد إجرائها و هذا الحرص يأتي خاصة من أحزاب وشخصيات سياسية ترى في تأخير إجراء الإنتخابات البلدية فرصة للملمة قواها والبحث عن أنجع السبل لمزاحمة أحزاب الحكم، ويأتي أيضا من جمعيات ما يسمى بالمجتمع المدني، والتي تعمل الجهات الدولية الراعية لها على تدريب الشباب،من أعضائها على المهارات القيادية، تمهيداً لمشاركتهم في الحياة السياسية. والتي ترى في إصدار المشروعين (القانون الأساسي الخاص بالإنتخابات والإستفتاء، ومشروع مجلة الجماعات المحلية) تفعيل للمقصد الرئيس من “دستور التأسيسي” بحسب ما خططت له القوى الدولية التي رعت نشأته وبدعوى تمكين التونسيات والتونسيين من إنتخاب مجالس تعبر عن إرادتهم و تتولى تسيير شؤونهم.

      وبين حرص القوة الماسكة بزمام الأمر في البلاد، من خلال أيد تخال أنها صاحبة الشأن فيه، على إحسان التحكم في خيوط “اللعبة السياسية” بتحديد التوقيت والظرف السياسي الملائم لإجراء هذه الإنتخابات البلدية والمحلية ،حتى قبل إصدار القوانين المنظمة لها ، نظرا لفرص النجاح الإنتخابي الذي يوفرها المشهد السياسي الحالي، بعد فترات الشك التي مرت بها القوى الحاكمة، وأن رياح الفوز بنتائج الإنتخابات البلدية بدأت تهبّ على أشرعتهم، وأن خارطة التحالفات بانت معالمها.

          بين هذا وذاك بدأت خيوط سدى محاولة خداع الناس تكتمل للسّيطرة على عقولهم وتضليلهم عن جوهر قضيتهم، تغيير النظام، بنصب ثالثة الأثافي الإنتخابات البلدية بعد مسرحيتي الإنتخابات الرئاسية والتشريعية، كون ذلك مطلب الناس من 2010 ومن قبل ذلك وأن هذا ما وعد به دستورهم وبشّر، فقد عملوا على أن يرسّخوا في أذهان الناس أن طو ق الخلاص لن يكتمل إلا بإجراء الإنتخابات البلدية وأن هذه الإنتخابات هي القارب والأمل الوحيد الذي يتحتم عليهم ركوبه للعبور إلى شاطئ الأمان، وأنه الكفيل بتحقيق أحلامهم في الخروج من درك التخلّف والضنك الذي ابتلي به الناس عقودا طويلة وضمانا لمعالجة القمع السياسي المتفشّي وانتهاكات حقوق الإنسان المنتشرة، وإدراك جملة من الأهداف تتجلى خاصة في:     

            1 ــ أنّ الخدمات تقترب أكثر من المواطن

            2 ــ أنّ أخذ القرار يصبح أقرب إلى المواطن

            3 ــ أنّ الإنتخابات البلدية والجهوية والإقليمية هي الترجمة الحقة للامركزية  الحكم .

            4 ــ  أن ذلك هو التعبير الصحيح عن أن النظام السياسي في تونس قد تغيّر وأنهم هم الذين باشروا عملية التغيير وعيا منهم واقتناعا بحتميته.

   في هذا السياق تأتي الحملة الدعائية الممنهجة للدفع بالناس وإغرائهم للإقبال على التسجيل بالقوائم الإنتخابية. إلا أنّ الناظر لحقائق الأمور يدرك ببساطة أن معالجة الإخلالات الهيكلية في النّظم السياسية لاتعالج بمثل هذه “الهرطقات” أو الترتيبات الإجرائية وإنما يكون بالتغيير الجذري بقلع الأسباب السرطانية لأصل الداء.  فالتخلي عن النيابات الخصو صية  واستبدالها بهياكل منتخبة انتخابا حرا ونزيها  وإعطاءها سلطة أخذ القرار لايغير من الواقع شيئا إذا لم تغير زاوية النظر إلى القضايا والمشكلات.

         فالمدقق في الحياة السياسية في تونس يدرك بجلاء أنها تتميز بخاصيتين لايمكن أن تغفل عنها العين الفاحصة .

           1 ــ رسم السياسات العامة وتحديد معالمها والسهر على تفاصيلها تضبطها استراتيجية القوى العالمية في تعاملها مع مختلف الأقاليم الدولية وخاصة مع أقاليم البلاد الإسلامية، ومنها بلادنا، حتى تظلّ في دائرة السيطرة فلا تخرج عن الطوق، وتنفذها ضغوط المقرضين الدوليين وفي مقدمتهم صندوق النقد الدولي الذي يربط القروض التي يقدمها لبلادنا بل أقساطها بمدى تباطؤ أو تسارع الإستجابة للإصلاحات الاقتصادية التي تتعهد بها الحكومة التونسية حتى طال الأمر أسعار الكهرباء والماء وحتى مياه الرّيّ نفسها، وترتب أبوابها وتفصل فصولها مراكز الدراسات والمنظمات والهياكل الدولية كالمركز الدولي للعدالة الانتقالية، مثلا، فهو الذي يزود صانعي السياسات التونسيين ومنظّمات المجتمع المدني فبها بالنصح وبالموارد المالية، وهو المركز الذي يتولى إدارة عملية الإنتقاال من مرحلة الإنفراد بالسلطة إلى مرحلة مايسمى بالتشاركية.

       2 ــ حُشر الساسة المحليون في ساحة التنازع على الفوز بمراكز القرار من خلال الدورات الإنتخابية المتعاقبة والتنافس على إنفاذ ما تقرره الدوائر الإستعمارية حفاظا على هيمنتها وسيادتها على الشعوب المغلوبة وللحيلولة دون نهضة هذه الشعوب وانعتاقها،

  وفي الحقيقة إن ما تمر به بلادنا من ” حراك سياسي” لا يعدو إلا أن يكون فصلا من فصول المكر الغربي بأمة الإسلام. فبعد أن تجلّت له نذر فشل النظام السباسي الذي فرضه عليها بعد إسقاط دولتها، دولة الخلافة, فبعد أن استنفدت الدولة الوطنية، التي وقع الإعداد لتركيزها طيلة الحقبة الإستعمارية المباشرة والترويج لها تحت عناوين “الإستقلال” المختلفة، طاقتها الذابلة أصلا،  على الإستجابة لمقتضيات الحالة الراهنة وقدرتها على الصمود أمام تيارات التغيير الجارفة  التي تعتمل في أمة حزمت أمرها على استعادت إرادتها ونفض أردية الخنوع عنها، عمد هذا العدو الكافر المستعمر إلى عملية تضليلية ماكرة، حين جعل من فئة من أبناء الأمة الذين أشربهم ثقافته  رأس حربة في مخطّط مكره بنا حين أقنعهم أنّ لامركزية الحكم وتقريب دائرة القرار والإدارة من الناس كفيلة بالقضاء على آلام  شعوبهم والإستجابة لآمالهم، من غير أن يدع المجال للنظر والتفكير في أصل النظام الذي ابتلينا به منذ أن استطاع المستعمر فصل الإسلام عن حياتنا  فكان من مكره العمل على إيهام الناس  أنّ التخلي عن مركزية الحكم واستبداله بالنظام اللامركزي أو ما يسمى بالجماعات المحلية وهي البلديات والجهات والأقاليم على أن يغطي كل صنف منها كامل تراب الجمهورية مع ترك الأبواب مشرعة على إمكانية بعث أصناف أخرى من الجماعات المحلية بواسطة القانون، وبحسب ما تقتضيه التعديلات الضرورية لتثبيت الأطر المستحدثة لإحكام الهيمنة والتضليل، كفيل بمعالجة الأزمة السياسية التي تتخبط فيها البلاد.

      هذا المسار الذي تروج له اليوم الطبقة السياسية وتحشد له كل طاقات البلاد لإقناع الناس أن عدم الإنخراط  في العملية الإنتخابية، للبلديات،  هو إهدار لفرصة  نجدة البلاد لإخراجها من أزماتها، و ما هو في الحقيقة إلّا أمل  موهوم سيستفيق الناس بعد إجراء هذه الإنتخابات البلدية، سواء أجريت في الموعد المقرر رسميا، يوم 17 ديسمبر القادم أو في شهر مارس من السنة الموالية كما ترغب في ذلك بعض فصائل المعارضة، على خيبة أمل خطيرة ستعصف بما تبقى لدى الناس من صبر وأناة.

     هذا المسار الذي تلهج به الطبقة السياسية وتظهر الغيرة والحرص عليه ما هو إلّا حمل كاذب كحمل المرأة العاقر التي تبشر زوجها بقرب الخلاص، حتى إذا كان يوم الخديعة إما أن تحبطه بادعاء إسقاط الجنين أو تدس عليه من ليس من صلبه، فلا الولادة صحّت ولا النّسل استمرّ.

         وختاما أما آن لأبناء الأمة من كلّ الأطياف ساسة ومثقفين عامتهم وخاصتهم أن  يدركوا “أنّ الله  – جلَّ شأْنه – أسكنهم الأرض واستعمرهم فيها ومنحهم حق التسلط على ما في الكون للانتفاع بما فيه من خيرات في حدود أمر الله ونهيه، وإذا كان الله قد أسكن عبيده في أرضه وسخر لهم ما في الكون منحة منه فإن ما في أيدي هؤلاء العبيد من ملك الله إنما هو من الناحية الفقهية عارية ينتفع بها البشر، والقيام على العارية في فقه البشر نيابة، وإن كانت نيابة العبد عن ربه والمملوك عن مالكه، وإذن فكل فرد من أفراد البشر يعتبر نائبًا عن ربه – جلَّ شَأْنه – فيما سخر الله للبشر من الكون وما سلطهم عليه وهو مقيد في كل تصرفاته بحدود هذه النيابة“.

CATEGORIES
TAGS
Share This