أضواء على أجهزة دولة الخلافة: الخليفة 2/2

أضواء على أجهزة دولة الخلافة: الخليفة 2/2

قرّاء جريدة التّحرير الأفاضل: كنّا الأسبوع الفارط قد فصّلنا القول في الجهاز الأوّل من أجهزة دولة الخلافة ألا وهو جهاز الخليفة، فبينّا واقعه (نائب عن الأمّة في الحكم والسّلطان وفي تنفيذ أحكام الشّرع) وحدّدنا شروطه (مسلم ـ ذكر ـ بالغ ـ عاقل ـ عدل ـ حرّ ـ قادر من أهل الكفاية) والمدّة المحدّدة لإقامته (ثلاثة أيّام بلياليها)..كما حدّدنا طريقة نصب الخليفة (البيعة) وكيفيّتها (المصافحة بالأيدي أو الكتابة أو الرّسائل القصيرة..) وصيغتها (العمل بكتاب الله وسنّة رسوله للخليفة، والطّاعة في العسر واليسر للأمّة) والإجراءات العمليّة لتنصيبه (إعلان شغور المنصب ـ تعيين الأمير المؤقّت ـ فتح باب الترشّحات ـ حصر المرشّحين المؤهّلين بستّة ـ إعادة حصرهم باثنين ـ عرض الفائزَيْن على النّاس ليختاروا أحدهما ـ تواصل عمليّة الانتخاب إلى ظهر اليوم الثّالث ـ بيعة الانعقاد للفائز من طرف أهل الحلّ والعقد ـ بيعة الطّاعة من طرف الأمّة ـ إشهار الخليفة الجديد للملأ ـ انتهاء صلاحيّات الأمير المؤقّت وتولّي الخليفة الجديد الحكم).. بقيت ثلاث مسائل هامّة متعلّقة بهذا الجهاز سنتولّى فيما يلي تفصيل القول فيها وهي (صلاحيّات الخليفة ـ مدّة رئاسته ـ دواعي عزله) وتكمن أهميّة هذا الثّالوث في أنّه مثّل هدفا تقليديّا لمطاعن العلمانيّين بوصفه مظنّة التغوّل والديكتاتوريّة حسب زعمهم..

صلاحيّات الخليفة

إن صلاحيّات الخليفة لا تستمدّ من شخصه ولا تفتك عنوة واقتدارًا بل تنسل من واقع الخلافة كنظام حكم ومن واقع الخليفة كرئيس للدولة الإسلامية ومن واقع عقد البيعة الذي بوّأه ذلك المنصب: فالخلافة وكالة عامّة وتفويض كلي في إقامة الدين ورعاية الشؤون وتطبيق الشرع وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم، والخليفة هو الذي ينوب عن الأمّة في الحكم والسلطان وتنفيذ أحكام الشرع جميعًا، فالإسلام جعل الحكم والسلطان للأمّة وأوجب عليها إيجاد الإسلام في واقع الحياة، وبمقتضى عقد البيعة تحوّل الأمّة سلطانها إلى شخص الخليفة ليصبح نائبًا عنها في إنجاز تلك المهمّة. من هذا المنطلق فإنّ الحكم يتمركز في شخص الخليفة بشكل ذاتي ولا يخرج عنه إلا بتفويض منه، فهو المسؤول الأوّل والأخير عن رعاية الشؤون وهو عماد الدولة الإسلاميّة وجهاز قائم بنفسه يمثل رأس أجهزتها، فالدولة الإسلامية تكاد تختزل فيه إذ عُرّفت بأنّها (خليفة يطبّق الإسلام)..وعلى ضوء هذه المهام الجسام تبدو صلاحيات الخليفة واسعة متعدّدة، إذ تتمركز فيه جميع صلاحيات الحكم ورعاية الشؤون: فهو الذي يتبنّى الأحكام الشرعية اللازمة للأمة ويسنّها قوانين، وهو المسؤول عن سياسة الدولة الداخلية والخارجية، وهو الذي يتولّى القيادة الفعلية للجيش وإعلان الحرب وعقد كافّة المعاهدات، وهو الذي يتولى أمر السفراء والسفارات المحلية والأجنبية، وهو الذي يعيّن ويعزل القضاة بجميع أصنافهم، وهو الذي يضع ميزانية الدولة ويقرّر فصولها ومبالغها.. فالحديث الشريف (الإمام راع وهو مسؤول عن رعيّته) يعطيه حق رعاية شؤون الأمّة بشكل مطلق دون قيد في أنواع الرعاية. وإذا أضفنا إلى هذا الكمّ من الصلاحيات أن رئاسة الخليفة غير مقيّدة بمدّة محدّدة أصبح المناط مظنّة الاستبداد وأرضيّة له بما يقرّبه ظاهريًا من واقع الديكتاتورية وثالوثها المميّز: فالخليفة ـ مبدئيًّا ـ يحتكر السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية ويتربّع على كرسي الحكم مدى الحياة..

الخليفة بين التنفيذ والتشريع

إن إسناد صفة التشريع للخليفة لا يستقيم شرعًا ولا ينطبق على صلاحيّاته: فالسادة في الإسلام للشرع أي أن وضع الأحكام والقوانين موكول إلى الله تعالى والوحي وليس إلى الإنسان والعقل البشري (إن الحكم إلا لله) ولا يملك أي إنسان صلاحية وضع ولو قانون واحد أو تعطيل حكم شرعي أو تعديل آخر بما يؤدّي إلى تحريم الحلال أو تحليل الحرام، فالعقل البشري مهمته فهم النصوص لا وضع النصوص، ومجاله التفكير بالنصوص لا في النصوص..أما ماهو من صلاحيات الخليفة وحده دون غيره فهو تبنّي الأحكام الشرعية اللازمة لرعاية الشؤون وسنها قوانين نافذة وهذا ليس تشريعًا: فالمسلمون مطالبون شرعًا بالالتزام بأحكام الشرع وأوامر الله ونواهيه لا بأحكام السلطان وأوامره ونواهيه، ولا محلّ للبشر في وضع أحكام لتنظيم علاقات الناس، بل تستنبط الأحكام من الكتاب والسنة بعملية اجتهادية صحيحة..غير أن الكثير من الأدلة التفصيلية ظنيّ الدلالة يحتمل عدّة معان، فكان من الطّبيعي والحتمي أن يختلف الناس في فهمها حدّ التباين وأن يكون في الحكم الواحد آراء مختلفة..وبما أنه يحرم شرعًا أن يتعدّد حكم الله في المسألة الواحدة وجب على المسلم أن يتبنّى حكمًا واحدًا يلتزم به ويصبح حكم الله في حقّه، هذا في المسائل الفرديّة، ولكن هناك مسائل تقتضي رعاية شؤون الأمّة أن يسير المسلمون جميعًا على رأي واحد فيها بما يحفظ وحدة المسلمين دولةً وتشريعًا وحكمًا، فاقتضى ذلك وجود جهة يُحتكم إليها لرفع الخلاف، ومن هنا جاءت القاعدة الفقهية (أمر الإمام يرفع الخلاف)..

الخليفة والتبنّي

 فالخليفة يتبنّى حكمًا واحدًا حسب رأيه واجتهاده ويأمر به فيصبح قانونًا نافذًا يلتزم به المسلمون ويعمل به الولاة والقضاة..والخليفة حين يتبنّى أحكامًا شرعية إنّما يختار رأيًا معيّنًا من ضمن عدّة آراء يحتملها النصّ، ويختاره باعتباره حكمًا شرعيًّا مستنبطًا باجتهاد شرعي، ولا يشرع هو حكمًا من عنده فالمشرّع هو الله وحده والخليفة مقيّد بالشرع لأنّ شرط بيعته أن تكون على العمل بالكتاب والسنّة لذلك فإنّ تبنّياته ليست بمعزل عن التمحيص والمتابعة والتثبّت من طرف مجلس الأمّة ومحكمة المظالم للفصل في صحّتها، هذا فضلاً عن كون مجالات تبنّيه مقيّدة لا تشمل العقائد والعبادات إلاّ فيما يحفظ وحدة المسلمين.

أما فيما يتعلّق بالتنفيذ، فإنّ صلاحيات الخليفة المطلقة في رعاية الشؤون هي أيضًا مقيّدة بالشرع: فيجب أن تجري حسب أحكام الشرع لا حسب ميولات وأهواء الخليفة فلا يجوز له مثلاً أن يعيّن امرأة في منصب حكم أو أن يمنع مباحًا دون عذر شرعي فضلاً عن تعطيل واجب أو تحليل حرام..فهو مطلق الصلاحية فيما أعطاه إياه الشّرع من هامش بسيط جدًّا يُمضي فيه رأيه واجتهاده لا يتعدّى جزءًا من المباح الخاص به بوصفه خليفة مثل تنظيم الإدارات وترتيب الجند وما شاكل ذلك من المصلحة العامّة، أما فيما عدا ذلك من المباح العام وسائر أعمال التكليف فهو مقيّد بأحكام الشرع ومتابع في قراراته وإجراءاته وتبنّياته من طرف مجلس الأمّة ومحكمة المظالم..

مدّة رئاسة الخليفة

من المؤشرات المتوهّمة على ديكتاتورية الخليفة أن مدة رئاسته غير محددة بزمن، فإذا بويع ظل خليفة حتى يموت..وفي الواقع فإن مبدأ التداول على السلطة في المنظومة الديمقراطية الذي يتبجّحون به في حقيقته ليس ظاهرة صحيّة بقدر ما هو مؤشّر على علة وحالة مرضيّة تنخر تلك المنظومة، فهو ناشئ عن اعتبارين اثنين: الأوّل هو النظر إلى السلطة بوصفها مغنمًا لا مغرمًا، وتشريفًا لا تكليفًا وميدانًا للنهب والإثراء لا مجال لخدمة الصالح العام، لذلك تراهم يتنافسون على السلطة ويستعجلون من سبقهم إليها الرحيل بحجّة التداول السلمي على السلطة..الاعتبار الثاني هو أن الرئيس في المنظومة الديمقراطية هو من قبيل الشخصيّات البرامج يمثل تيارًا سياسيًّا قائمًا على إيديولوجيا مخالفة لغيره (اشتراكي ـ ليبرالي ـ قومي ـ محافظ ـ يميني..) ويُترك أمر الاختيار للشعب، لذلك كان من الطبيعي في ظل هكذا منظومة أن يقع التداول على السلطة وان تحدّد فترة نيابيّة للرئيس.

أما في المنظومة الإسلامية فالخلافة مسؤولية جسيمة وتكليف له تبعات دنيويّة وأخروية خطيرة تتجاوز مجرّد التشريفات، لذلك فإنّها تُعتلى بدافع تقوى الله والاضطلاع بواجب يفترض على كل من يأنس في نفسه القدرة أن يتولاّه مخافة الوقوع في الإثم العظيم..كما أن الخليفة مهما كان شخصه هو في نهاية الأمر سيطبّق شرع الله ولا فرق في ذلك بين زيد أو عمرو، فالبرنامج واحد وإن اختلف الأشخاص، لذلك لا ضرورة لاستبدال الحكام وتحديد مدد حكمهم ما داموا ملتزمين بما بويعوا عليه محافظين على الشرع منفّذين لأحكامه قادرين على القيام بشؤون الدولة ومسؤوليات الخلافة..فالخلافة غير محدّدة في مدّتها ولكنها ليست مرسلة إلى ما لا نهاية أيضًا: فهي محددة بالمعقود عليه في عقد البيعة وهو تطبيق الإسلام، فإذا حصل طارئ يمنع الخليفة من الالتزام بتعهّداته سواء أكان ذلك لأمر ذاتي كالإخلال بشرط من شروط الانعقاد السبعة، أو لأمر خارجي كوقوعه في الأسر الذي لا فكاك منه..فإنّه يتحتّم عزله وتتولّى محكمة المظالم تحقيق مناطه وتقرّر في شأنه إما العزل أو عدمه..فعن أي ديكتاتورية نتحدّث..؟؟

أ, بسّام فرحات

CATEGORIES
Share This