الديمقراطية إذا جاعت تأكل أطرافها

الديمقراطية إذا جاعت تأكل أطرافها

تمتلك الديمقراطية خاصيات عدة لعل أبرزها القدرة على المناورة والتلافي السريع لمساوئها، واستغلال كل مثلبة موجودة فيها لصالحها وتحويلها إلى “حسنة” ينبري رهبان وخزنة معبدها للترويج لها والسعي  إلى تكريسها وتثبيتها في أذهان الناس، وهكذا دواليك كلما برزت للأفهام وللعيان هنة من هنات الديمقراطية، وباتت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار والسقوط مستفيدة من هلاميتها وطبعها الزئبقي. هذا وإذا اشتد بها الخطب أكثر وتقطعت بها السبل ولم تجد ما تسوقه لتضمن ديمومتها واستمرارها تنحى في بادئ الأمر إلى الانحناء للعاصفة وتلزم جحرها في انتظار زوال الخطر, وإذا طال الحصار ولم تقدر على التخلص منه تلتجئ إلى محاكاة الأخطبوط وتلتهم بعض أطرافها, وهكذا تتمكن من العيش ويظل نظامها هو المسيطر ويواصل كهنتها الاستفادة من قوانينها كمورد للكسب والتمعش, والأمثلة على هذا التمشي عديدة ومتعددة لا يسمح المجال بسردها جميعا.

الديمقراطية بين سن الرشد ونقص الأهلية

حين غزت جحافل المبشرين بالديمقراطية جميع المنابر والمنتديات، وتسللوا إلى مواقع الحكم لم نسمع منهم كلمة واحدة حول المراحل العمرية التي يجب أن تمر بها الديمقراطية، فكلهم أجمعوا على أنها تولد مكتملة النمو وتتمتع منذ الوهلة الأولى لوجودها بمطلق الأهلية ولا تشوبها شائبة، ولم نسمع من أحدهم يتحدث عن تعدد أنواع الديمقراطية، لقد أجزموا بأنها واحدة وهي تلك التي ابتدعها الإغريق وهي صالحة لتكون نظام حكم لا ظلم فيه ولا رهق منذ اللحظة الأولى لتطبيقها على الناس الذين بمجرد أن يبدأ سريان النظام الديمقراطية يأكلون من فوقهم ومن تحت أرجلهم، فالديمقراطية هي الكفيلة بأن تجعل حياتهم نعيما مقيما، ولكن وبمجرد أن تعالت صرخات الجوعى وأنات المرضى الذين لفضتهم مستشفيات النظام الديمقراطي وامتزجت بنحيب ذوي من قتلتهم المنظومة الصحية ذاتها، وبمجرد كشفت البنية التحتية عن وهنها وهشاشتها، خرج علينا من بشرونا بنعيم الديمقراطية ليخبرونا بأن ما استوردوه لنا من حضارة الغرب، جلبوه لنا قبل الفطام, فهو مازال في المهد ولم يشتد عوده بعد، نعم فهم لم يفشلوا  ونظامهم بعيد كل البعد عن الفشل, فقط هي ديمقراطية ناشئة يلزمها الكثير من الوقت لتقوى على حملنا جميعا إلى فراديسها. وبما أنها قاصر ولم تكتمل أهليتها فهي غير قادرة على منع التناحر والتطاحن بين الأحزاب السياسية من أجل مآرب شخصية ومصالح ضيقة, وهذا ما نراه يوميا حتى داخل الحزب الواحد, فالتشقق والتشرذم في حركة ” النداء” نتيجة طبيعية مادامت الديمقراطية في طور النمو ولم تبلغ شن الرشد بعد، حتى وإن بلغ بهم الأمر حدّ تبادل العنف والإضرار بأملاك الغير كما حصل ذات اجتماع لحركة “النداء” بأحد النزل، استعمال الهراوات في تلك الواقعة من مقتضيات ديمقراطيتهم واعتبروها حالة صحية وضرورة أملتها الديمقراطية الناشئة.

الديمقراطية تستثمر فسادها

لسنا في حاجة للتذكير بتلك المجزرة التي شهدها مركز التوليد وطب الرضيع بالرابطة والتي هي مثال من بين الأمثلة العديدة على إجرام النظام الديمقراطي وعينة بسيطة على سياسة القتل الممنهج المتبعة منذ حقبة حكم “بورقيبة ” إلى اليوم، والسبب الوحيد لتلك الضجة حول مقتل الرضع هو أن الإبادة كانت جماعية وفي وقت واحد، فآلة حصد الأرواح لم تتوقف للحظة وما ترتكبه يمر في الخفاء ولا يسمع بفظاعاتها أحد, ولا تحدث دويا يعكر صفو القائمين على هذا النظام, وبما أنها مذبحة لا يمكن إخفاؤها  هرع دهاقنة الديمقراطية إلى التنديد بما حدث والاعتراف بفداحة ما حدث, كان هذا في البداية بغاية امتصاص غضب الناس ثم بدأ التبرير والتمهيد لتملص الدولة من مسؤوليتها، ولكي لا تمر الحادثة دون أن تسجل الديمقراطية بعض النقاط لصالحها تركوا ما وقع جانبا وداسوا على آلام الثكالى وجراح أباء الرضع المغدور بهم، وطفقوا ينضمون قصائد المديح والثناء لوزير الصحة المستقيل، فتلك الاستقالة مثلت قرارا غير مسبوق يرسخ التقاليد الديمقراطية وأكدت نزاهته ونظافة يديه وجعلته فوق كل الشبهات. وكم نحن في حاجة لمثل هكذا كوارث ومآسي حتى تتكرر الحركة التي قام بها وزير الصحة المستقيل حتى تترسخ التقاليد الديمقراطية أكثر فأكثر, ولا يهم إن مات الشعب بأكمله. هذا ولو حصل العكس وتشبث الوزير بمنصبه ولم يستقيل لسمعتهم يشيدون بروح المسؤولية التي يتحلى بها الوزير وإصراره على معرفة الحقيقية وتقديم الجناة للعدالة لتقتص منهم, وهذا يرسخ التقاليد الديمقراطية أيضا..

الديمقراطية ولعبة ركوب الأحداث

بعد الثورة وتخطي الناس حاجز الخوف تعرت ممارسات الدولة بالكامل وبات الخوض في فسادها وفساد القائمين عليها خبز الناس اليومي, ولم تعد هناك محاذير ولا خشية من تبعات كشف الجرائم المرتكبة في حق البلاد والعباد، لهذا لم يعد في مقدور الدولة أن تتباها بما لم تفعل وباتت عاجزة على تلميع صورتها والنفخ في انجازات لم نجدها إلا في نشرات الأخبار المتملقة، فهي اليوم عاجزة عن فعل ذلك تماما كعجزها على رعاية شؤون الناس وعلى حماية البلاد من أطماع وشرور القوى الاستعمارية كان لابد من مجاراة نسق الثورة والتحدث بلسان الساخطين على حكام تونس الجدد لدرجة أصبحنا بالكاد نفرق بين عضو حكومة ومعارض, بل ما نسمعه من وزير وهو يتحدث عن الأوضاع المزرية ويصف الكوارث الحاصلة في أي قطاع من القطاعات لا نسمعه من معارض للحكومة, وقد تحول العديد من الوزراء إلى مراسلين جهويين ينقلون لنا مآسي ما كانت لتقع لولا فساد نظامهم أولا وفسادهم ثانية.

20 مارس.. الواقع المزيّف

وكالعادة يتم توظيف هذا لتلميع صورة الديمقراطية, فالإقرار مثلا بوجود الفساد واستفحاله من صميم الديمقراطية, ففي النظام الديمقراطي يكفي أن تعترف بالجرم وتندد به ثم قم بما شئت دون أن تحاسب على ما اقترفت يداك، وهذا ما برع فيه صاحب الهيبة “الباجي قائد السبسي” فبعد حديثه عن حزبه الذي يملك من الكفاءات ما يسمح بإدارة 4 دول وله برامج لو اطلعنا عليها نُحال على أقسام العناية المركزة من شدة الفرح، تباكى في خطابه الأخير يوم 20 مارس 2019 كما لم يتباكى من قبل على سوء حال البلاد وأمعن في التجريح في الحكومة ورئيسها واصفا الوضع بالكارثي مع اعترافه بتوفر الثروات ببلادنا لكن التقصير في جلب الشركات الكبرى التي تمتلك آلات تنقيب متطورة حال دون الانتفاع بثروة النفط والغاز.. “الباجي” تكلم وكأنه من كوكب أخر ولا علاقة له بالوضع المزري الذي  نعيشه, فهو ومن طالتهم سهام نقده نتاج لنظام فاسد مفسد حتى لا نقول أكثر, ولكن رئيس الدولة بالوكالة جنح إلى البكاء والعويل ليقال كما قيل في شأن استقالة وزير الصحة تلك هي الديمقراطية و”الباجي “رسخ تقاليدها، والحقيقة أن تلك التقاليد مرسخة منذ أن جادت عليهم فرنسا بالاستقلال المكذوب, فمنذ عهد “بورقيبة” إلى يوم الناس هذا لم تغب التقاليد الديمقراطية عن حياتنا ولكنها تختلف من مرحلة إلى أخرى وتتغير بتغير الظروف وتتبدل مع تبدل المصالح لكنها تبقى دوما هي ذاتها ديمقراطية, فهي إما قمع واستبداد, وإما كذب ودجل واستخفاف بعقول الناس, مع ثابت لا يتبدل مطلقا ألا وهو محاربة الإسلام  بوصفه نظاما يعالج جميع مشاكل الحياة.. نظام يجوع فيه الحاكم ليشبع المحكوم, أما الديمقراطية فهي تجوع الجميع ليشبع كهنتها وإن حصل وجاعت تأكل أطرافها لتعيش ونموت نحن.

حسن نوير

CATEGORIES
TAGS
Share This