تبادل أدوار بين السلطة والمجتمع المدني لتزوير إرادة الشعب التونسي

تبادل أدوار بين السلطة والمجتمع المدني لتزوير إرادة الشعب التونسي

حدّث أبو ذرّ التونسي قال: بتاريخ الجمعة 13/09/2019 نظّم منتدى الجاحظ بمقرّه بشارع الحريّة حلقة نقاش تحت عنوان (مدى احترام السّلوك الانتخابي للمبادئ الدّيمقراطية)… فقد اختارت الهيئة المديرة للمنتدى افتتاح سنتها الثقافيّة الجديدة ببرمجة هذه الورشة الإعلاميّة الموجّهة نحو الحدث الاستثنائي الذي تتعهّده تونس فيما بين 15/09 و 06/10/2019 والمتمثّل في الانتخابات الرّئاسية السّابقة لأوانها بدورتيها والانتخابات التشريعيّة… وعلى امتداد ساعتين 16/18 حاضر كلّ من الإعلامي والمحلّل السياسي (هشام الحاجّي) والصحفيّة بدار الصّباح (منية العرفاوي) حول أربع نقاط أساسيّة: مواصفات المرشّح المثالي ـ السّلوك الحضاري الذي يجب أن يتقيّد به النّاشطون ـ دور النّاخبين في إنجاح العرس الدّيمقراطي وأخيرًا دور الزّيادة في المراقبين والملاحظين في تنقية الأجواء الانتخابيّة… وواضح لمن له أدنى فراسة وحسّ سياسي أنّ المستهدف من وراء طرح هذه النّقاط هو أوّلاً: صياغة عقيدة التونسي الانتخابيّة على أساس فصل الدّين عن الحياة… ثانيًا: إقصاء الإسلام من التشريع والحكم لصالح الدّستور العلماني الوضعي… ثالثًا: صياغة المترشّحين حسب المواصفات الغربيّة فكرًا وميولاً وولاءً… رابعًا: التحكّم في اختيارات النّاخب التونسي وضمان عدم خروجه عن السّيطرة والوجهة المرسومة له… خامسًا: تكريس الوصاية الغربّية الكاملة على العمليّة الانتخابيّة ـ إشرافًا ومراقبةً ونتائج ـ عبر جمعيّات المجتمع المدني (ومنتدى الجاحظ إحداها) في إطار تبادل الأدوار بينها وبين سلطة العمالة والارتهان لتزوير إرادة الشعب التونسي… هذا إجمالاً، وإليكم التّفصيل…

أرضيّة ديمقراطية

أمّا الخلفيّة الفكريّة التي استند إليها المحاضران في طرحهما للمسألة وحاولا أن يوجّها إليها النقاش ويحصراه في حلبتها فهي إرساء أرضيّة ديمقراطية للانتخابات يلتزم بها جميع الأطراف ـ ترشّحًا وترشيحًا ـ وينشطون تحت سقفها: فمن المفروض أن تندرج الانتخابات في إطار التّداول السّلمي على السّلطة وأن يخضع لجملة من الشروط والمواصفات الموضوعيّة وأن تتمّ في كنف التّنافس النزيه والمبارزة المعقولة والنقاش العمومي والحوار المدني الخاضع للمعايير الدوليّة وأن تستمدّ مصداقيّتها ونزاهتها من المبادئ الدّيمقراطيّة…فالمطلوب هو دمقرطة الفعل الانتخابي وأركان العمليّة الانتخابيّة وإخضاعها للسلوك الحضاري عبر التّنسيب في المواقف والتسامح في التعامل مع الغير والنّزعة السلميّة واحترام الأحزاب المنافسة والرّأي الآخر والتعهّد بالمحافظة على المكاسب الدّستوريّة وامتلاك ثقافة الحكم وقبول النّتائج بروح رياضيّة والاستعداد للتّنازل لفائدة الصّالح العامّ ونبذ التعصّب والأحكام المسبقة الاستبداديّة والتّواضع والاستعداد لتقاسم السّلطة مع الشركاء والابتعاد عن التّباغض والكفّ عن إعادة إنتاج الأحقاد والصّراعات الدّفينة ونبذ التّمييز والإقصاء وضمان المشاركة المواطنيّة لجميع مكوّنات الملأ الدّيمقراطي… وما إلى ذلك من المصروف اللّغوي الذي يُراد منه تدجين المنتخِب والمُنتَخَب وإخضاع الوسطين السياسي والشعبي بما يُكسب العمليّة الانتخابيّة مصداقيّةً مفترضة ويؤكّد علويّة الدّستور الوضعي ويُقصي عقيدة الأمّة ويكرّس مشروع التّوافق المسموم ويكبح جماح الشعب المقهور ويُبقي الأوضاع تحت سيطرة الأسياد… وبذلك يكون الكافر المستعمر قد ضرب عدّة عصافير بحجر واحد: تزوير إرادة الشعب ـ تعويم تلك الجريمة وتفريقها بين القبائل السياسيّة والفقاقيع الحزبيّة ـ إعادة إنتاج منظومته الفكريّة والسياسيّة ـ ديمومة الهيمنة على البلاد والعباد والمقدّرات…

في قفص الاتّهام

لقد دخلت آلية الانتخاب بعد الثورة في نفق مظلم أفضى بها إلى قفص الاتّهام ومنه إلى غرفة الإنعاش: فبعد أن كانت قيمة ثابتة منزّهة لا تطالُها أصابع الاتّهام بل توجّه إلى تزوير النظامين البورقيبي والتجمّعي، أصبحت مع الحكومات الثوريّة مجرّحةً في عدالتها متّهمةً في ذاتها ومصداقيّتها ونجاعتها بوصفها أسلوبًا للاختيار والانتقاء والتداول السلمي على السلطة…فقد كانت خيبة التونسيين مريرة في مرشّحيهم للانتخابات التأسيسية أو النيابيّة أو البلديّة أو الرئاسية الذين تبيّن أنهم في تنافر مشطّ مع تطلّعات ناخبيهم وانتظاراتهم، تفصل بينهم هوّة فكرية ثقافيّة حضاريّة شاسعة يستوي في ذلك العلمانيّون واليساريّون ومُدّعو المرجعية الإسلاميّة…فعلى أيديهم المرتعشة وُلد الدّستور اللّقيط المحارب لله ورسوله وتكرّس واقع التبعيّة والارتهان ونهب الثروات وتدهور ت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لسواد التونسيّين بشكل أضحت معه (قفة المواطن) مطمحًا بعيد المنال…كما وقع تجيير البلاد والعباد والمقدّرات لخدمة ديون صندوق النقد الدولي وسائر مؤسسات الإقراض العالميّة (وقف الانتدابات ـ تجميد الأجور ـ تخفيض العملة…) وتحطّمت آمال الشباب في أبسط مقوّمات العيش الكريم وتبيّن للجميع بما لا يدع مجالاً للشكّ أن الحملات الانتخابيّة تدار شعرًا بينما يدار الحكم والنيابة والتمثيل نثرًا وأن الوعود الانتخابيّة لا تلزم إلاّ من يصدّقها وأن تغيير الوجوه لن يغيّر الواقع. وبذلك فقد اهتزّت ثقة النّاس في الآليّة الانتخابيّة وفي الفعل الانتخابي وفقدوا الأمل في التغيير عبر صندوق الاقتراع، وكان ردّ الفعل السلبي واليائس والمتمثّل في مقاطعة الانتخابات والعزوف عن المشاركة فيها…

مأزق الانتخابات

وقد بلغ هذا العزوف ذروته في انتخابات 2014 حيث شهدت مقاطعة شعبيّة تجاوزت الأربعة ملايين ممّن لهم الحق في الانتخاب ما جعل من نسبة المشاركة فيها تتدنّى إلى الحضيض وهذا أوّل مآزق الانتخابات في تونس: فقد فقدت التّغطية الدّيمقراطية والرّصيد العددي المتمثّل في الأغلبيّة والأكثريّة التي تضفي عليها رداءً شفّافًا من المصداقيّة والشرعيّة… فالأغلبيّة معدّلة في المنظومة الدّيمقراطية سواء كان ذلك على مستوى عدد الأصوات أو نسبة المشاركة، فكلّما كانت هذه الأخيرة أعلى كانت المصداقية أقوى والشرعية أوضح والعكس صحيح: كلّما كانت نسبة المشاركة منخفضة فقدت العملية الانتخابيّة مصداقيّتها وجُرّد الرّئيس من شرعيّته وأصبح حاكمًا لأغلبيّة غير راغبة فيه ولا مساندة له بحيث تستحيل الدّيمقراطيّة آليّةً لإنتاج الديكتاتورية في مفارقة عجيبة، وهذا واقع حال الرئيس الراحل السبسي: فهو منتخب من قبل ناشطات الكريديف والحركات النسويّة وبعض المستوطنات والأورام العلمانيّة واليساريّة ولكنّه منصّب على رقاب شعب مسلم.

هذه الوضعيّة الهشّة جعلت من الحكومة الكسيحة المتهالكة في موقف حرج أمام شركائها ومنظوريها، كما جعلت من الأطراف الاستعمارية المراهنة عليها في تسخير البلاد في حالة قلق سياسي وخوف من المستقبل لاسيّما في ظلّ الصراع الدّولي وترصّد القوى الاستعماريّة المنافسة… إلى هذا الحدّ تحرّكت السلطة في اتّجاهين: الأوّل تزييف الأرقام والنّسب وعمليّات سبر الآراء للنفخ في عدد المسجّلين والإيهام بارتفاع نسبة المشاركة، فإذا بالموتى ينتخبون وإذا بالتسجيل والتزكيات تقع بدون علم أصحابها… الاتّجاه الثاني يتمثّل في تطعيم القائمات الانتخابيّة بمترشّحين يتمتّعون بالنزاهة والمصداقيّة عند النّاس أي شخصيّات (عذراء) لم تتلوّث بدنس الممارسة السياسيّة وترفع شعارات ثوريّة برّاقة مدغدغة لعامّة النّاس على غرار (قيس سعيّد ـ الصّافي سعيد ـ سيف الدّين مخلوف ـ محمّد عبّو…).. فهم مجرّد طعم لجلب النّاخبين والنّفخ في حجم المشاركة وتضخيم نسبتها المائويّة نُشدانًا للمصداقيّة المفترضة، ويبقى النّجاح محصورًا في دائرة ضيّقة محسوبة على الكافر المستعمر سواء كان ذلك برغبة النّاخبين أو بتزوير الانتخابات…

فخّ الدّيمقراطيّة

لقد أوكل المستعمر للمنظومة الديمقراطيّة وظيفة التصدّي للإسلام والمسلمين وإقصائهم من الحكم والتّشريع، وجعل من صندوق الاقتراع والشّرعية الديمقراطيّة حَلَبَتَهُ التي يستنسخ فيها منظومته الفكريّة والسياسيّة ويحكم بها قبضته على البلاد والعباد… فالانتخابات أسلوب للتّداول السّلمي على السّلطة في إطار نفس المبدأ حيث تتغيّر الوجوه وتبقى نفس المنظومة قائمةً ومتحكّمة… على هذا الأساس حرص الكافر المستعمر منذ مسرحيّة الاستقلال على حصر التداول على السّلطة في أشباه مستعمراته ضمن آليّة واحدة هي صندوق الاقتراع وجعل من عقيدة فصل الدّين عن الحياة والدّستور العلماني الوضعي والأشخاص المضبوعين بثقافته أساسًا للعمليّة الانتخابيّة، وبذلك ضمن إعادة إنتاج منظومته الفكريّة والسياسيّة وديمومة هيمنته على البلاد والعباد والمقدّرات…لذلك فقد أحاط الانتخابات والشرعيّة الانتخابيّة بهالة من القداسة بوصفها تمكّن الشّعوب من تقرير مصيرهم وتحديد ملامح مستقبلهم بكلّ حريّة وتساهم بشكل فعّال في تغيير أوضاعهم وإيجاد الحلول للأزمات التي تعصف بهم، فيما هي مجرّد بلطجة سياسيّة وتزوير لإرادة الشعوب بامتياز… وفي المقابل عمد الكافر المستعمر إلى شيطنة كلّ محاولة للخروج عن اللّعبة الدّيمقراطيّة وشرعيّة الصندوق: فليس أمام المشروع الإسلامي إلاّ أن ينخرط في المسار الدّيمقراطي ويلتزم بشروطه فيفقد خصوصيّته ويتشوّه وينتفي، أو أن يعمل من خارج تلك المنظومة وآليّاتها الانتخابيّة فيصبح تحت طائلة القانون عرضةً للوصم والتشويه والمحاربة…فالكافر المستعمر قد جعل من الدّولة الوطنيّة ـ دستورًا وأنظمةً ومؤسّسات ومقدّرات ـ ومن العمليّة الانتخابيّة ـ آليّةً وبرنامجًا وشروطًا ومواصفات ـ أداة لإقصاء الإسلام والمسلمين من الوسط السياسي ومحاربتهم حرب إبادة لا هوادة فيها…

رسكلة السلوك الانتخابي

غير أنّ هذه الكمّاشة الانتخابيّة الدّيمقراطية التي تطحن الملأ السياسي وتُقصي الصّديق قبل العدوّ وتسطو على إرادة النّاس وسلطانهم وأقواتهم وأرزاقهم وتزيح عقيدتهم من الحكم والتشريع قد أحدثت تملمُلاً وامتعاضا في المجتمع التونسي وولّدت ضغطًا شعبيًّا لم تفلح انتفاضة 2011 في الالتفاف عليه ونزع فتيله، وهو يوشك هذه الأيّام أن ينفجر ويقلب الموازين السياسيّة رأسًا على عقب بما يهدّد لا مصالح الكافر المستعمر فحسب بل وجوده في البلاد أصلاً… وقد تجسّد هذا الضغط على أرض الواقع في ثلاث تعبيرات: أولاها: حراك علماني سأم من فتات المائدة الدّيمقراطيّة ومن لعب دور المعارضة الأبديّة والكومبارس والوصيفة لمحظيّة الكافر المستعمر ويريد أن يأخذ حظّه ونصيبه من الحكم ولو بالوكالة…ثانيتها: حراك شعبي هادر كفر بالدّيمقراطيّة ويأس من الانتخابات وضاق ذرعًا بالفقر والخصاصة وانسداد الآفاق ويوشك أن يفجّرها ثورة جياع تأتي على أخضر البلاد ويابسها… ثالثتها: حراك إسلامي ـ ثوري كفر بشرعيّة الصندوق أو أُقْصِيَ عنها وخيّر العمل خارج المسار الدّيمقراطي للوصول إلى الحكم إمّا عبر العنف والإرهاب أو عبر النّصرة والتّمكين بما يعصف بالاستعمار وأزلامه ويضع البلاد والعباد على كفّ عفريت…إزاء هذه الوضعيّة العدميّة المنذرة بالويل والثّبور لا مناص من إعادة القطيع السياسي والشّعبي إلى حظيرة صندوق الاقتراع وإخضاع السلوك الانتخابي ـ ترشُّحًا وترشيحًا ـ لمبادئ الدّيمقراطيّة عبر إشاعة مفاهيم انبطاحيّة تدجّن الوسط السياسي وتكبح جماح الثّائرين وتشيطن الغريم الإسلامي وتوجد الأرضيّة التشريعية لتحجيمه أو القضاء عليه…في هذا السياق بالذّات تتنزّل حلقة النّقاش التي نظّمها منتدى الجاحظ والتي طرحت على نفسها ـ في تبادل للأدوار مع الحكومة ـ دمقرطة السّلوك الانتخابي أي تكبيله وإبعاده أكثر ما يمكن عن العنف والمسالك الجانبيّة الموازية للطريق الذي رسمه الاستعمار وذلك عبر (النّقاش والحوار والتنافس النّزيه ـ السّلوك الحضاري ـ المعايير الدولية ـ المكاسب الدّستوريّة ـ نبذ التعصّب والتّمييز والإقصاء ـ التّنازل للصّالح العامّ ـ الرّوح الرياضيّة ـ التّسامح ـ تقاسم السّلطة مع الشّركاء…)..

أ, بسام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This