عيــنٌ على الإعـــلام: الدّيـــوان زمـــن سقـــوط النّـــظام

مقدمة

لم يعد غريبا على نظام مترنح عاجز في تونس، وقد وصل حالة من الإفلاس الفكري والسقوط الأخلاقي والانحدار القيمي أن يمُرّ إلى مرحلة الافتراء وانعدام الحياء، تجاه ما يراه بديلا سياسيا وحضاريا قادرا على ملأ وضعية الفراغ السياسي الاستراتيجي الذي تعيشه منطقة العالم الإسلامي ومنها منطقة الشمال الإفريقي التي لم تزدهر عبر التاريخ إلا حين سطعت عليها شمس الخلافة. فهذا النظام أعجز من أن يفهم طبيعة الأزمة الحضارية التي يمرّ بها الغرب، لأن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب على رأي العلامة ابن خلدون رحمه الله، ويكفي للتأكد من هذه العقلية التي تُسيّر حُكّامنا النظر إلى وقفتهم أمام أسيادهم…

لم تعد أولويّة البلد إنقاذه من وضعية الفراغ السياسي والخواء الفكري والانهيار الاقتصادي والاختناق الاجتماعي، ولا ربطه إقليميّا بمحيطه الطبيعي لينفتح على جيرانه وإخوانه في العقيدة والدّين، فهذا متروك لإملاءات مؤسسات النهب الدولي، ومصالح مصّاصي دماء الشعوب، إنما صارت الخلافة ودعاتها، أولويّة قصوى تستوجب الاستنفار في عيون هذا النظام الآيل للتداعي والانهيار، ليُوضع حزب التحرير مجددا في قفص الاتّهام ويُحاسب على أخطاء غيره، أو ربّما يُحملّ بمُفرده مسؤولية فشل الديمقراطية بحكمها العلماني ونظامها الرأسمالي ومردودها الكارثي على جميع الأصعدة والمستويات…

لا يتسع المقام للحديث عن نشاط الحزب الذي لم يتوقف حتى زمن الكورونا وما فعلته السلطة لكبح جماحه، ولا عن مسار الهرسلة الأمنية والمحاكمات القضائية التي تعرض لها شباب حزب التحرير طيلة السنوات الماضية بشكل أسبوعي وربما يوميّ، قبل وبعد مسار 25 جويلية المزعوم، وحتى عبر المرسوم 54 سيء الذكر، ولا عن منع العديد من أنشطة الحزب وتحركاته أو محاولة عزله جماهيريا مع التلويح بإمكانية حلّه عبر إخضاع القضاء لأجندة الإقصاء، أو حتى محاولات ربط الحزب بالإرهاب والتسفير التي باءت كلّها بالفشل الذريع…

لا يتسع المقام لهذا كلّه، فهذه أمور قد اعتاد عليها شباب الحزب ولم تزدهم إلا صلابة وعزيمة وإصرارا على مواصلة النضال في طريق قلع نظام الاستعمار، صراعا فكريا وكفاحا سياسيا، إلى حين تحرير تونس من الهيمنة الغربية وأدواتها المحلية، وإقامة حكم راشد على أساس الإسلام، ولكن حسبنا في هذا السياق أن نُعرّج على الجهود الإعلاميّة المبذولة لأبواق النظام في الداخل والخارج، من أجل تشويه فكرة الخلافة ومحاربة دعاتها، وتقديم ذلك على بقيّة الملفات في كل المناسبات التي تفرض كسر الطوق الإعلامي، وكأن حزب التحرير هو المسؤول عن العشرية السوداء أو عمّا سبقها من عقود الظلام التي كانت نتاجا حتميّا لتبنّي الخيار الرأسمالي الليبرالي المنبثق عن عقيدة فصل الدّين عن الحياة وعن أنظمة العيش.

فبينما تصرّ أبواق النظام بين الحين والآخر على تزييف الحقائق وربط حزب التحرير بمسار قيس سعيّد في محاولة للتلبيس على الناس وإيهامهم بأن الحزب مساند لمسار 25 جويلية، تعود نفس هذه الأبواق لتناقض نفسها وتقول إن الحزب معارض للنظام الجمهوري ولقوانين هذا البلد، مع أن الواضح لدى الجميع هو أن حزب التحرير يعمل على تغيير كامل النظام لا على مجرد تغيير الأشخاص، وأنه عصيّ على محاولات التطويع والتركيع، وأنه لا يستحي من تقديم بدائله وتصوراته في الحكم، على عكس باقي الوسط السياسي الذي يتصارع حول المناصب لا حول البرامج.

عيّنة من النفاق الإعلامي

ولنسلط الضوء في هذا السياق على عيّنة من النفاق الإعلامي الذي تمارسه بعض الجهات خدمة لأجندات غربية تكرّس تقسيم الأمة الإسلامية تحت مسمى « الوطنيّة »، ذلك الشعار الذي غيّب حكم الإسلام، وديست من خلاله كرامة الشعوب تحت الأقدام.

فبتاريخ 31 أكتوبر 2021، وبعد وقفات أسبوعية لشباب حزب التحرير أمام المساجد، مناهضة لحكم الاستعمار في بلادنا، اتضح من خلالها للرأي العام أن المطلوب هو إسقاط النظام لا رأس النظام، كتبت جريدة العرب اللندنية مقالا مطوّلا بعنوان: « عودة مفاجئة لحزب التحرير لاستهداف قيس سعيد« ، تحدث فيه أحد الصحفيين المبتدئين عن تحركات حثيثة للحزب وأنصاره تثير جدلا بعد تحديه السلطات بتوظيف المساجد للدعاية الحزبية.

الملاحظ في هذا المقال، أن الكاتب قفز فوق كل أعمال الحزب ووقفاته وكلماته الدورية الموجهة كلها ضد الاستعمار وأداوته، ليختزل الأمر في صراع مع شخص الرئيس عبر وقفتين قام بهما الحزب أمام جامع الفتح بالعاصمة وفي محيط جامع اللخمي بصفاقس، حيث قال آنذاك بأن « حزب التحرير الإسلامي المتشدد اختفى بشكل مفاجئ لسنوات ثم عاد إلى الواجهة ليهاجم الإجراءات الاستثنائية التي أقدم عليها الرئيس التونسي قيس سعيد في يوليو الماضي، في ظهور يعتقد مراقبون أنه منظم وهادف إلى توسيع دائرة معارضي الرئيس سعيد وإرباك الانتقال السياسي الجديد ومنعه من استقرار يسمح له بعرض برامجه ». (على أساس أن للرئيس برنامجا خاصا…)

هذا ما تم تسويقه عبر تلك المقالة، مع أن موقف الحزب من وصول قيس سعيد إلى الحكم في ندوته الصحفية (قبيل الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية)، كان واضحا وجليّا بشكل ساطع لا يقبل التأويل، حيث اعتبر الحزب أن المشاركة في انتخابات 2019 جريمة وأنها تمكين للاستعمار، مما جعل وكالة الأناضول التركية تتفرد بنقل هذا الموقف، في حين أحجمت العديد من الأبواق الأوروبية في الداخل عن إيصال هذا الموقف للرأي العام، وخيّرت المُضيّ في خيار التعتيم الإعلامي على غرار العادة.

ثم يمرّ الصحفي في مقالته بجريدة « العرب »قبل محاولة تقزيم طرح حزب التحرير ومدى تأثيره على المجتمع التونسي، إلى طرح الأسئلة التي لا تصدر عن عامة الناس ولا تعبّر عن مشاغلهم، بقدر ما هي محاولة للفت انتباه السلطة ودق ناقوس الخطر، علّها تستجيب إلى النظرة الإقصائية التي تسكن عقول أعداء الخلافة، حيث أضاف:

« تُشكل عودة حزب التحرير في تونس إلى الواجهة بقوة بعد إجراءات الخامس والعشرين من يوليو مدعاة للتساؤل عن الأهداف التي يرنو الحزب إلى تحقيقها بالرغم من الانتقادات التي يواجهها بشأن وضعيته القانونية، وكذلك بشأن خطابه المعادي للدولة المدنية ».

ورغم العديد من المحاولات المحليّة لصرف أذهان الناس عن الإسلام المبدئي عبر صناعة التفاهة وإغراق الناس في القضايا الجزئية أو التعتيم على حزب التحرير وذكره بنوع من التفاجئ  في مناسبات معدودة، إلا أن أبواق النظام لم تصل إلى مستوى الحرفيّة العالية التي تتميز بها قناة الجزيرة في تلبيس الحق بالباطل، حيث كان لها السبق في إنتاج برنامج (موازين) المختص في دمقرطة الإسلام ومحاولة إنهاء حالة القطيعة بين الإسلاميين والعلمانيين، عبر ترويج فكرة الانصهار في بوتقة الديمقراطية إلى حد التماهي السياسي والذوبان الإيديولوجي، في عهد ما بات يُعرف بنهاية الإيديولوجيا، مع أنها بدورها فكرة إيديولوجية ليبرالية متوحشة.

هذا البرنامج، كان له السبق في مخاطبة المخيال الشعبي التونسي ومحاولة رسم فكرة هلامية حول الخلافة تحتكر الفكر والتفكير الاستراتيجي، وتقلل من شأن حزب التحرير كحزب سياسي قضيته بناء دولة وليس مجرد استلام حكم، حيث تمت استضافة الباحث المصري محمد عفان (الحاصل على الدكتوراه في دراسات الشرق الأوسط من جامعة إكستر البريطانية) ليحدث الناس عن مركزية فكرة الخلافة لدى حزب التحرير، ضمن حلقة بعنوان « مفهوم الدولة في الإسلام » اختارت لها قناة الجزيرة المفكر « أبو يعرب المرزوقي » ضيفا رئيسيا، من أجل ضمان حسن متابعة الجمهور التونسي للحلقة، وكالعادة، حزب التحرير هو الحاضر الغائب الذي لا يُستدعى عند طرح وشرح أفكاره.

إذاعة « الديوان » في الميزان

أما إعلامنا المختص في التشويه والتلفيق والتضليل إلا ما رحم ربّي، فحسبنا أن نسلط الضوء على جزء مما قامت به إذاعة « الديوان »، في حق حزب التحرير.

فبتاريخ 1 جوان 2022، قامت إذاعة « ديوان أف أم » عبر الفقرة التي تقدمها « حذامي محجوب » ضمن برنامج (هنا تونس) والذي كان يديره ويقدمه الصحفي محمد اليوسفي، بالإسهاب بل الإطناب في الحديث عن حزب التحرير، حيث اعتبرت محجوب أن الملاحظ هو عودته للنشاط بقوة، واستمرار مخاطبته للناس من خلال قناة الواقية وجريدة التحرير، مذكرة بمشاركة قياداته يوم 19 مارس 2022 في ندوة الاتحاد الإسلامي الدولي للمحامين تحت عنوان (أي دستور نريد)، وبأن أهم مخرجات تلك الندوة، هو تأييد الحاضرين لفكرة تطبيق الشريعة بل لدستور حزب التحرير.

ثم عادت في نفس الفقرة، لتحذر من تنامي نشاط حزب التحرير الذي يتهيأ لعقد ندوة فكرية سياسية في القيروان يوم 3 جوان، تحت عنوان صادم (حسب نظرها): « آن لأهل القيروان أن ينصروا دينهم ويعملوا لإقامة الخلافة »، ثم لتوجه نداء استغاثة للسلطات في تونس، كي تقف صدا منيعا ضد هذا الخطاب المعادي للدولة الوطنية التي تعيش حالة الموت السريري، ولنظامها الجمهوري الذي يبدو أنه لم يعد له من جمهور…

اليوم، وإثر تمكن حزب التحرير وشبابه في ذكرى 14 جانفي من الوصول إلى شارع الثورة، رغم كل محاولات العرقلة والمنع، تُركت الديمقراطية والدولة الوطنية جانبا وهما موضع المساءلة والمحاسبة، لتمرّ بعض أبواق الإعلام مجددا إلى جلد حزب التحرير وتحميله مسؤولية تصدير خطاب يتجاوز الحدود الوطنية القُطريّة، ويطالب بالخلافة الإسلامية، أمام عدسات كاميرا الإعلام المحلي والعالمي، وعلى بعد أمتار من مقر سفارة فرنسا الاستعمارية، التي سارع سفيرها إلى زيارة وزير الداخلية…

نعم، لقد تحدثت إذاعة الديوان عن سلميّة التحركات يوم 14 جانفي ضمن برنامج (ناس الديوان) بمشاركة هاتفية من رئيس مكتب الإعلام والاتصال بوزارة الداخلية « فاكر بوزغاية » والذي أكد بدوره سلمية تلك التحركات يومها، وهذه مسألة مبدئية عند حزب التحرير، رغم التشكيك الذي حصل في برنامج (هنا تونس) في حلّته الجديدة التي يقدمها « معز بن غربية ». وإذا أمكن لنا تجاوز مسألة اعترافات مقدم هذا البرنامج سابقا حول امتلاكه لمعلومات فعلية حول حقيقة اغتيال شكري بلعيد، (لكوننا لسنا جهة أمنية أو قضائية حتى نحاكم الناس)، وتجاوز الطريقة الاستفزازية التي تم عبرها تمرير وتثبيت رواية هذه الإذاعة بخصوص ما حدث يوم 14 جانفي، فإنه لا يمكن تجاوز ما صدر عن الصحفي سفيان بن فرحات من تشكيك في كلام رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير الأستاذ خبيب كرباكة، على أمواج هذه الإذاعة (الديوان)، دون الإشارة والتعليق الذي لا يشخصن الأمور وإنما ينتصر للواقع والتاريخ على حد سواء.

فقد حاول بن فرحات بكل ما أوتي من جهد خلال ردّه على الأستاذ كرباكة،نفي تدخل الدولة العثمانية ضد الغزو الإسباني لتونس، وسارع إلى تَوْنسَة القضيّة التي وقعت قبل الاستعمار الفرنسي نفسه، أي قبل ولادة « الدولة الوطنية »، محرّكا النعرة الوطنية و »العروشية » في الفراشيش وأولاد عيّار والشوابية والسواحلية والصفاقسية، وكأن هناك من نفى عنهم حقيقة جهادهم ضد المحتل، بقيادة جيش الخلافة العثمانية، مستميتا في ليّ أعناق الأدلة التاريخية القاطعة حول دور الخلافة آنذاك، قائلا: « يزيك مالخلافة، الترك احتلونا ».

هذا الكلام، لا يجب أن يمرّ مرور الكرام دون الردّ عليه، وذلك من وجهين: أولهما تاريخٌ ثابتٌ قطعا، وثانيهما واقعٌ أشد قطعية من حيث دلالته وثبوته.

أولا: إن شموخ أسوار المدن العتيقة في كامل ربوع البلاد ومنها مدينة صفاقس التي تبث منها إذاعة الديوان، دليل على عراقة الحضارة الإسلامية في تونس وامتدادها، منذ الخلافة العباسية فالأموية إلى أواخر الخلافة العثمانية، وهي حقيقة يكاد ينطق بها الحجر الذي شيدت به هذه الأسوار، التي ستظل شاهدة على التزييف العلماني للتاريخ.

فباب الديوان المجسد في شعار شركة الديوان للإنتاج السمعي (الشركة التي تدير أنشطة إذاعة « ديوان آفآم »)، كان شاهدا على صد أهالي صفاقس لفرسان مالطا وللغزاة الصليبيين من أوروبا على مرّ العصور، بل كان باب الديوان أول أبواب المدينة إنشاء وأقدمها في شمال إفريقيا (في القرن التاسع ميلادي)، حيث كان للمدينة تخطيطا عربيا مشابها لمدينة الكوفة العراقية، ولا غرابة مادام بناؤها كان زمن الخلافة العباسية التي تتخذ من بغداد عاصمة لها.

فقد استطاع بنو الأغلب فرض الأمن في جميع أنحاء المغرب وجلب الاستقرار له أثناء حكمهم لإفريقية. حيث كان إبراهيم بن الأغلب بن سالم التميمي رجلاً شُجاعاً، ولم يقف مكتوف الأيدي أمام خروج تمام بن تميم التميمي على والي العباسيين محمد بن مقاتل العكي عام 183 هـ والذي تمكن من هزيمة الجيش العباسي وطرد ابن مقاتل واستولى على القيروان ونزعها من تحت سلطان الخلافة، بل حاربه إبراهيم بن الأغلب وهزمه وردّ ابن مقاتل العكي إلى منصبه، وعندما بلغت هذه الأخبار الخليفة هارون الرشيد جعل إبراهيم بن الأغلب واليا على إفريقية، فحرص إبراهيم بن الأغلب على بناء أجهزة دولة الخلافة في الحكم والإدارة، ومهّد الطريق في إفريقية وهزم أهل الشرور والفتن وقضى عليهم، وبنى دعائم حكم قوي ورشيد استمر من بعده أكثر من قرنً من الزمان، وامتد نفوذه إلى ليبيا والجزائر والمغرب وجزر مالطا وصقلية وجزء من إيطاليا…

في ذلك الزمن المجيد، تم بناء سور مدينة صفاقس، وهو سور تاريخيّ يعتبر السور الوحيد المتواصل في كامل البلاد التونسية، وبني أوسطه الجامع الكبير في فترة قضاء الإمام سحنون (صاحب مدونة الفقه المالكي) على القيروان، فضلا عن بناء قصر صفاقس (القصبة اليوم) وباب الديوان، كما اعتنى الأغالبة زمن الخلافة العباسية، بجامع الزيتونة وجامع عقبة بن نافع، بالترميم والتحسين، اعترافا منهم بجميل الخلافة الراشدة، وبمناقب عقبة بن نافع، ذلك التابعي والقائد العسكري الفذ، والذي اعتبر من أبرز قادة الفتح الإسلامي للمغرب في عهد الخلافة الراشدة ثم الدولة الأموية، ليعيّن مرّتين متتاليتين واليا على إفريقيّة.

بعد دحر الاحتلال الإسباني ومع بداية الخلافة العثمانية، عرفت صفاقس استقرارا عموما، وأصبح بها ممثّلان للحكومة المركزيّة هما الوالي والآغا الّذي يقود العسكر ويرابط معه في القصبة، ثم تم لاحقا تشييد جامع « الترك » على مقربة من الجامع الكبير، وظلت القصبة مقرا للحكم والقيادة، كما اهتم الأتراك في تونس ببناء نظام دفاعي قوي، يشهد به القاصي والداني (جزء منه موجود إلى اليوم على الموقع الرسمي لوزارة الدفاع التونسية)، ويكفي للتدبر في تاريخ الخلافة العثمانية ودورها في حماية تونس قراءة « المؤنس في أخبار إفريقية وتونس » لابن أبي دينار، أو « إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان » لابن أبي الضياف، أو « الحلل السندسية في الأخبار التونسية » للوزير السراج محمد الأندلسي.

لقد تمسك أهل تونس بالخلافة العثمانية، وخاصة أهالي صفاقس، إلى درجة أغاضت الكفار والمستعمرين، فلم ينس الاستعمار الفرنسي، تمسك أبطال صفاقس بالخلافة وذودهم عن حياض الدين واستنجادهم بسلطان الدولة العثمانية، ولذلك تم عقابهم جماعيا وإعدام 17 مجاهدا منهم رميا بالرصاص أمام باب الديوان بأمر من فرنسا يوم 4سبتمبر 1881، ولم يسمح حتى لأهلهم بدفنهم، وذلك بعد أن سيطر جندرمية الفرنسيين على كلّ المراكز الحيوية بصفاقس، فاتخذوا مثلا القصبة مقرا لهم، ودنّسوا الجامع الكبير واتّخذوا صحنه اسطبلا لخيولهم.

ومع ذلك، تجد من بيننا اليوم من ينكر حقيقة قيادة الخلافة العثمانية للعمليات العسكرية التي صدت هجوم الإسبان وردت كيد الأعداء إلى نحورهم وألحقت بهم هزيمة نكراء بمشاركة طوعية من أهل البلد الذين لم يتخلوا عن الجهاد جنبا إلى جنب مع القوات الإنكشارية العثمانية. فلمصلحة من ينكر هؤلاء دور الخلافة ويعتبرون حمايتها الفعلية لأهل تونس احتلالا؟

ثانيا: إن الإذاعة التي سمعنا عبر أمواجها، تمسكا بالوطن والحدود الوطنيّة، ورفضا للثقافات الدخيلة بزعمها، تحمل اسما يناقض تلك النظرة الوطنيّة الضيقة، سواء بمعناه اللغوي أم بالمعنى الاصطلاحي.

فالديوان كلمة فارسية الأصل وتعني باللغة العربية السجل أو الكتاب أو الدفتر أو كل ما يتم فيه التدوين، ومن هذا المعنى اللغوي جاء أيضا ديوان الشعر.

وفي تعريفه الاصطلاحي، هو مكان يتم في تسجيل كل ما له علاقة بشؤون السلطنة، والأعمال التجارية، والمالية، والجيوش، والعمال. وقد سمي بذلك الاسم من باب المجاز على المكان الذي تحفظ فيه السجلات ويجرى العمل بها. وهو كما يقول الماوردي: « موضع لحفظ ما يتعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال، ومن يقوم بها الجيوش والعمال ».

وكانت الدواوين قد بدأت منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث اتخذ كُتَّابًا، يكتبون له رسائل الدعوة إلى الملوك والأمراء وزعماء القبائل، وغيرها من الرسائل إلى الولاة، ومن ثَمَّ فإن نشأة الدواوين في الدولة الإسلامية بدأت منذ عهد النبي صلى الله عليه سلم، وإن لم يتخذ المسلمون وقتئذ مسمى الدواوين.

وعندما اتسعت رقعة الدولة زمن خلافة عمر – رضى الله عنه – اتساعًا كبيرًا؛ نظرا لحركة الفتوحات الواسعة، وأصبحت الحاجة ملحة لضبط الأمور، وخاصة في النواحي المالية؛ أُنشئت الدواوين بشكل رسمي، وكان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أول من دَوّنها، فكان ديوان (الجند) وديوان (الخزانة) وديوان (العطاء) وهكذا، لأنها شكل من أشكال المدنيّة التي يجوز أخذها عن سائر الأمم والشعوب، وكانت قد أخذت في ذلك الزمان من الفرس.

ثم تطورت مهام الديوان في العصر الأموي والعباسي وأصبح العاملون به من كبار رجال الدولة ويتولون أعلى المناصب السياسية كالوزارات وغيرها إلى جانب وظيفتهم ككتاب بالدواوين. ولذلك سمي باب الديوان في صفاقس، بهذا الاسم نسبة إلى الديوان الذي يدخله القادة والعاملون في الدولة منذ العهد الأغلبي والحفصي إلى حدود الدولة العثمانية.

أما في الخلافة العثمانية، فالديوان هو جهاز إداري مضمّن يتكوّن من الصدر الأعظم وأفراد الطبقة الحاكمة. ومنصب الصدر الأعظم هو أعلى مناصب الدولة بعد منصب السلطان، وكان من يتبوأ هذا المنصب يلعب دور رئيس الوزراء ورئيس الديوان، ومن صلاحياته تعيين قادة الجيش وجميع أصحاب المناصب الإدارية المركزية أو الإقليمية.

هذا هو أصل كلمة الديوان، فهي كلمة فارسية المنشأ، صار لها واقع إسلامي مصطلح عليه، لا ينكره إلا جاهل.

فأما من تصالح مع نفسه ودينه وهويته وأمته، فلا تجده يناكف ضد قوميّات بدعوى الوطنيّة، أو يرمي غيره بالحجارة وينسى أن بيته من زجاج، فالإسلام هو الذي وحد بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وأبي بكر القرشي على قلب رجل واحد. ولن يعيد لهذا الدين عزه ومجده إلا من سار على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم حذو القذة بالقذة، نحو خلافة راشدة على منهاج النبوة تنهي حكم الاستعمار وعملاءه ووكلاءه، عسى أن يكون ذلك قريبا بإذن الله وعسى أن تكون القيروان عاصمة الخلافة.

المهندس وسام الأطرش

CATEGORIES
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )