يحدث في تونس: معارك وهمية لتبرير فشل الدولة

يحدث في تونس: معارك وهمية لتبرير فشل الدولة

لن نأتي بالجديد إذا قلنا أن العجز المطلق هو من طبيعة ما تسمى بالدولة الوطنية, فمنذ نشأتها الأولى على يد « بورقيبة » لم تحقق لأهل تونس ولو النزر القليل من مقومات العيش الكريم, فغذاؤنا دواؤنا, ونمط عيشنا تحدده لنا قوى خارجية وفقا لمصالحها وأطماعها. هذه الدولة جعلتنا في تبعية مقيتة لتلك القوى. رحل بورقيبة وخلفه بن علي الذي فرّ هاربا. تغير شكل السلطة بعد هروبه وجيء بأشخاص معظمهم ناهضوا حكم بورقيبة وبن على لكنهم لم يناهضوا يوما الدولة, فهم من حماة النظام الديمقراطي الوضعي ومن حراس معبده الأوفياء بزعامة فئة ادعت زورا أنها تتبنى المشروع الحضاري للأمة وأنها تحمي بيضة الإسلام وتعلي رايته. نعم فحركة النهضة لا تختلف عن بورقيبة وعن بن على إلا من حيث الشكل الخارجي فحسب, ومن جاء للحكم من بعدها لا يختلف عنها إلا من حيث ما يردده صباحا مساء من شعارات جوفاء, توهم الناس بأنه مختلف عن سابقيه وأنه هو المنقذ للبلاد والحال أنه مدافع شرس عن سبب معاناة أهل تونس طيلة العقود الستة التي مرت على انتهاء الاستعمار المباشر لبلادنا واستبداله باستعمار ناعم لا يراه ألا ذوو البصائر. إذن تغير الأشخاص ولم تتغير الدولة وبقيت الأوضاع تراوح مكانها بين السيئ وما هو أسوء.

قلنا أن العجز من ثوابت هذه الدولة, لكن هناك متغيرات وهي تلك المتعلقة بكيفية تبرير العجز وصرف الأنظار عن عدم قدرة الدولة على رعاية شؤون الناس. هذا يختلف من حاكم إلى آخر. فلكل ماسك بالسلطة شجرة يحجب بها غابة المشاكل والأزمات التي تتخبط فيها البلاد وتنكد عيش العباد. فبورقيبة كانت له شجرة محاربة التخلف والجهل, ففي معظم خطاباته المطولة كان يصف الناس بالجهل والتخلف مما تسبب حسب زعمه في تأخر البلاد عن ركب البلدان المتقدمة, والحال أنه هو من كرس الجهل والتخلف وكرس سياسة الارتهان للجهات الأجنبية وجعلنا في تبعية فكرية وسياسية واقتصادية للمستعمر بأن حارب الإسلام بوصفه نظام حياة, وعلى هذا النهج سار كل من جاء بعده إلى أن وصلنا إلى مرحلة الرئيس الحالي « قيس سعيد » الذي اتخذ مهمة الحيلولة دون تكرار الانفجار, ذلك الانفجار الذي أطاح بعرش بن على. الرئيس الحالي التقط شعار « الشعب يريد » وجعل منه غاية ووسيلة وانطلق في خوض حروب عدة لم تجن منها البلاد غير الضجيج والصراخ. فحربه الأولى كانت على الفساد ولم يصب الفساد بخدش واحد لأن الدولة هي سببه ومصدره. أعلن الحرب عن المتآمرين والمرتهنين لجهات خارجية ومع هذا مازلنا في قبضة القوى الاستعمارية وتحت نفوذها لأن الدولة هي من سرعت ذلك الارتهان والتبعية المطلقة للغرب حتى وإن عبّر الرئيس عن السيادة والوقوف تجاه تلك القوى الند بالند ومهما صرخ ومهما ظهرت على ملامح وجهه علامات الحزم وهو يتحدث عن استقلالية تونس وعدم قبوله البتة الخضوع لاملاءات وأوامر القوى الاستعمارية..

كل تلك الحروب لم يترتب عنها أي أثر وساءت الأوضاع أكثر فأكثر. هنا أعلن الرئيس حربا أخرى وهي حرب مزدوجة خلط فيها محاربة الخونة والمتربصين بالبلاد مع محاربة المعتدين عن القانون, وأختار أن تكون الحرب مع روافد الدولة الوطنية والدولة المدنية, ودولة الحداثة.. -تعددت تسميات الدولة والنتيجة واحدة- المهم, أراد « قيس سعيد » أن تكون حربه مع مناصرين لهذه الدولة ولنظامها الوضعي, وأدرج حربه في خانة إرادة الشعب.. ومصلحة الشعب… حصل هذا مع اسمرار معاناة الشعب. لكن من أجل تلهية الشعب وخداعه كل الحروب ممكنة حتى إن اقتضى الأمر دهس وسحل ما يعتبرونه من مكاسب النظام الديمقراطي والدولة الحديثة…

لقد داهمت قوات الأمن مؤخرا مقر « دار المحامي » لاعتقال محامية متهمة بالإساءة للبلاد في برنامج تلفزي, ثم أعادوا الكرة واقتحموا المقر, واعتقلوا محاميا آخر بتهمة الاعتداء على عون أمن. وما يعيبه المنتمون لقطاع المحامين وما يسمى بالمجتمع المدني هو أن اقتحام دار المحامي مخالف للقانون الذي سنته الدولة والمتمثل في طلب الإذن بالاقتحام والتنسيق مع هيئة المحامين وهذا ما لم يحصل في الحادثة المذكورة. بعبارة أوضح هم يحتجون على الدولة لأنها اعتدت على نفسها وتجاوزت القانون, هذا ما يردده روافد الدولة. أما السلطة فتقول أنها طبقت القانون وحمت هيبة الدولة ولا أحد فوق القانون. روافد الدولة يتهمون الدولة بالاعتداء على الحريات العامة التي تكفلها القوانين والمواثيق الدولية. والسلطة تقول أنها تحرص كل الحرص على الالتزام بتطبيق تلك القوانين واحترام تلك المواثيق.. شدّ وجذب.. فعل ورد فعل.. كرّ وفرّ, هذا يتهم ذاك. الدولة تلاحق نخبها الذين يمثلون الجدار الواقي لها وتدوس ما تعتبره من أهم مكاسبها, فقط لتغطي على عجزها وفشلها المزمن في إنجاز ما ينفع البلاد والعباد. إنها مجرد حروب وهمية لتضليل الناس وتشتيت انتباههم, فالرئيس قيس سعيد في نظر كثير من الناس يخوض حربه هذه من أجلهم ومن أجل الأجيال القادمة, وفي الحقيقة كل ما قام به وكل ما سيقوم به في ظل هذه الدولة زبد سيذهب في يوم ما جفاء لأنه بعيد كل البعد عن النظام الذي انبثق عن عقيدة الأمة, قال تعالى: « فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.. »

CATEGORIES
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus (0 )